عبد الحميد غانم:
تصادف اليوم في الثاني من تشرين الثاني الـذكرى الـ 105 لوعد بلفور المشؤوم الذي صدر في العام 1917، ومنحت بموجبه بريطانيا حقاً للصهاينة في تأسيس وطن لهم على أرض فلسطين، بناءً على المقولة المزيفة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
بهذا الوعد تحققت العبارة الشهيرة: ‘لقد أعطي من لا يملك وعداً لمن لا يستحق، وليكون ذلك اليوم، يوماً أسود في تاريخ الشعب الفلسطيني، بل في تاريخ البشرية كلها، وضربة للعدالة والشرعية الدولية التي شاركت المنظمة الدولية ممثلة بعصبة الأمم ولاحقاً بهيئة الأمم المتحدة والقوى الغربية ممثلة ببريطانيا والولايات المتحدة الأميركية شاركت، ولاتزال تشارك في الجرائم التي تندى لها جبين الإنسانية بحق شعب فلسطين وبهويته وأرضه ومقدساته وحاضره ومستقبله.
كان هذا الوعد بمثابة الخطوة الفعلية الأولى للغرب على طريق إقامة كيان للصهاينة على أرض فلسطين استجابة لرغبات الصهيونية العالمية على حساب شعب أصيل متجذر في هذه الأرض منذ آلاف السنين.
وجاء الوعد على شكل تصريح موجَّه من قبل وزير خارجية بريطانيا آنذاك (آرثر جيمس بلفور) في حكومة ديفيد لويد جورج في الثاني من تشرين الثاني من عام 1917م إلى اللورد روتشيلد (أحد زعماء الحركة الصهيونية العالمية)، وذلك بعد مفاوضات استمرت ثلاث سنوات دارت بين الحكومة البريطانية من جهة، والصهاينة البريطانيين والمنظمة الصهيونية العالمية من جهة أخرى؛ واستطاع من خلالها الصهاينة إقناع بريطانيا بقدرتهم على تحقيق أهداف بريطانيا، والحفاظ على مصالحها في المنطقة.
لقد اتخذت الحركة الصهيونية العالمية وقادتها في بداية الأمر من هذا الوعد، مستنداً قانونياً لتدعم به مطالبها المتمثلة في إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين، وتحقيقاً لحلم الصهاينة بالحصول على تعهد من إحدى الدول الكبرى بإقامة وطن لهم، يجمع شتاتهم بما ينسجم وتوجهات الحركة الصهيونية بعد انتقالها من مرحلة التنظير لأفكارها إلى حيز التنفيذ في أعقاب المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في مدينة بازل بسويسرا عام 1897م، والذي أقرّ البرنامج الصهيوني، وأكد على أن الصهيونية تسعى من أجل إنشاء وطن في فلسطين.
ورغم استغلال الحركة الصهيونية وعد بلفور، ومن ثم صك الانتداب، وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947م القاضي بتقسيم فلسطين، ليحققوا حلمهم بإقامة كيان إسرائيل في الخامس عشر من أيار من عام 1948م، وتلقى مساندة دولية جعلها بؤرة توتر وتغطرس في المنطقة، وتتوسع وتبتلع المزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية، وتبطش بمن تبقى من الشعب الفلسطيني على أرضه دون رحمة، إلا أن الصهاينة تنكروا لهذا الوعد ولكل من ساعدهم لإقامة كيانهم الغاصب، فصاروا ينسبون الفضل لجهودهم الخالصة في إقامة هذا الكيان.
وهذا لا ينفي تورط القوى الكبرى التي تقدم الدعم المادي والسياسي والعسكري وتوفر الغطاء لاستمرار جرائم الصهيونية ضد فلسطين والمنطقة العربية، وكذلك تورط الأمم المتحدة التي تهيمن على قراراتها تلك القوى بالمشاركة في جرائم قتل الشعب الفلسطيني واستمرار معاناته وتشرده من أرضه.
على الرغم من أن وعد بلفور باطل من الناحية القانونية؛ وبالتالي فان كل ما نتج عنه، وكل ما تأسس عليه فهو باطل. فالوجود البريطاني في فلسطين كان مجرد احتلال، ولا يمنح الاحتلال، أو الانتداب الدولة المنتدبة حق التصرف بالأراضي الواقعة تحت وصايتها، أو أي جزء منها. وفلسطين ليست جزءاً من الممتلكات البريطانية، حتى تمنحها لمن تشاء، ولأن الحكومة البريطانية أعلنت في مناسبات كثيرة أن الهدف من احتلالها هو تحرير فلسطين من السيطرة العثمانية، وإقامة حكومة وطنية فيها. من هنا فإن وعد بلفور ليس له صفة الإلزام القانوني، فهو تصريح من جانب واحد، لاالتزامات متقابلة فيه، وقد صدر في صيغة رسالة موجهة من وزير الخارجية إلى أحد رعايا الدولة ذاتها، فليس لهذا التصريح صفة المعاهدة أو الاتفاق أو العقد الدولي.
وهذا القرار البريطاني لا يختلف عن سياساتها وقت الانتداب بعد سلسلة قرارات وخطوات معادية أصدرتها تجاه فلسطين، بدأت قبل “وعد بلفور” عام 1917، الذي مهّد لقيام كيان إسرائيل، مروراً بتسهيل عمليات الهجرة اليهودية، وطرد السكان وهدم القرى والمنازل وارتكاب المجازر حتى إعلان قيام الكيان عام 1948.
لقد جعل وعد بلفور فلسطين وطناً للصهاينة وهم ليسوا سكان فلسطين، إذ لم يكن في فلسطين من اليهود عند صدوره سوى خمسين ألفاً من أصل عددهم في العالم حينذاك، والذي كانوا بالملايين، في حين كان عدد سكان فلسطين من العرب في ذلك الوقت يناهز 650 ألفاً من المواطنين الذين كانوا، ومنذ آلاف السنين يطورون حياتهم في بادية وريف ومدن هذه الأرض، ولكن الوعد المشؤوم تجاهلهم، ولم يعترف لهم بحقوقهم السياسية والاقتصادية والإدارية وبتاريخهم الحضاري والثقافي والاجتماعي على هذه الأرض التي تدل أوابدها وآثارها على عمق ارتباطهم بها.
وفضلاً عن ذلك، فإن هذا الوعد يتعارض مع أحد أهم مبادئ القانون الدولي، ألا وهو مبدأ حق تقرير المصير الذي طالما نادى به الحلفاء وادَّعوا أنهم منحازون إليه وساعون إلى تطبيقه في كل مكان؛ ولكن الوعد الذي أصدره وزير خارجية بريطانيا (أحد أركان تحالف الحلفاء في الحرب العالمية) تنكر لحقوق الشعب الفلسطيني، والحق به ظلماً تاريخياً لا نزال نعيش تداعياته حتى يومنا هذا.
ما زالت الجريمة التي كان ضحيتها الشعب الفلسطيني ماثلة أمام العالم، ولم تزل آثارها ترهق كاهل الشعب الفلسطيني الذي تستمر معاناته ومحاولة إبادته بسبب هذا الوعد؛ فالنكبة شرّدتهم من ديارهم عام 1948م، ودمرت بيوتهم عام 1967م، ولا زال القتل والتدمير وكل أشكال الانتهاكات مستمرة حتى اللحظة.
وما زالت حكومة الاحتلال تجد من يعدها بالحماية والدعم والرعاية والتفوق العسكري وغض الطرف عن أفعالها وجرائمها بحق الشعب الفلسطيني؛ بل يقدم “صفقة القرن” التي تعد امتداداً لوعد بلفور بهدف شطب القضية الفلسطينية وتصفيتها، وكل إدارة أميركية تأتي وكل أنظمة غربية في بريطانيا وغيرها تجدد التزامها بأمن الكيان الإسرائيلي والحفاظ على استمرار غطرسته واحتلاله.
إن هذه الجريمة المستمرة التي أطلقها وعد بلفور المشؤوم كانت الأساس في تشريد الشعب الفلسطيني من وطنه واستمرار معاناته في مخيمات اللجوء والشتات، لن تغفرها الأجيال الفلسطينية والعربية المتعاقبة، ولن تغفر لمن ارتكبها ويرتكبها اليوم من الصهاينة والمستوطنين ومن يقف معهم من قوى وأنظمة غربية وفي المنطقة، ومهما حاول الكيان البقاء في ظل تعنته وصلفه ستفشل المشروعات والخطط جميعها الهادفة لاستمراره وبقائه محتلاً، لأنها ستسقط أمام ضربات المقاومة ووحدة الصف الفلسطيني في إقامة مشروعها الوطني ودولتها المستقلة، وستبقى متمسكة بحقوقها المشروعة غير القابلة للتصرف في الحرية والاستقلال والعودة إلى الأرض تلك الحقوق التي تقرها المواثيق والقرارات الدولية وحقائق التاريخ والجغرافية السياسية للمنطقة.
إن هذه الجريمة لابد من محاسبة القائمين بها وهم الصهاينة ومن يقف وراءها من الأنظمة الغربية التي ساندت الصهاينة على ارتكابها منذ قيام كيان الاحتلال وحتى الآن، ولا تكفي الاعتذارات بل بحاجة لإنهاء الاحتلال وعودة الأرض والحقوق إلى أصحابها الشرعيين وملاحقة المجرمين والمحتلين.
اقرأ في الملف السياسي