فرد حر من الداخل هو فرد منفتح على العالم الخارجي.. والانفتاح يولد التفاعل مع البيئة، وهذا بدوره يحقق الابتكار، وما هو من الجديد، ويحرر الموهبة لتعبر عن نفسها.. فالإبداع شرط من شروط تقدم البشرية وتطورها، ولكننا في عصر التكنولوجيا، والاكتشاف، وتبدل مفاهيم شتى ما يجعلنا بحاجة إلى تعميق تجربة الإبداع، وتأصيل الموهبة.. والإبداع الإنساني على مدى الدهور يتطور كما الصفات الوراثية التي تتأثر بالبيئة.
يظل الإبداع هو المنفذ الوحيد للحضارة سواء في العلم، أو في سائر الفنون.. فهل كان فن المعمار مثلاً في أي حضارة من الحضارات إلا رحيق ما يُمتص من مواهب لا حصر لها حتى تجلى على الصورة التي كان عليها ووصلتنا؟ والأمثلة على مثل ذلك كثيرة.
هذا يعود بنا إلى ضرورة البحث عن الموهبة في شتى المجالات لتزدهر تلك المجالات، وتتطور بما يتناسب والعصر.. فمما لا شك فيه أن الموهبة أمر حقيقي، وضروري، وكل إنسان ـ كما يقول أحد الفلاسفة ـ هو بطريقة ما فنان.. بمعنى أن المواهب موزعة على البشر بدرجات متفاوتة، وبأشكال متعددة.. وهنا لابد أن نفرق بين ما نسميه الميل وبين ما هو العتبة إلى الموهبة.. وفي اكتشاف الميول لدى الأفراد يُلتقط من بينهم جواهر المبدعين، والموهوبين.
إن اكتشاف مثل هؤلاء الأفراد المتميزين يكاد يشكل نهضة حقيقية لأوطانهم في النماء، والازدهار لأنهم يسعفونها بالتطور العلمي، والثقافي في مسار الحضارة، كما يسعفونها إلى جانب ذلك بالحلول الحاسمة، والمبتكرة لمشكلات قائمة، وما من دولة إلا ولديها مشكلاتها، وأزماتها الخاصة بها، والتي تحاول أن تجد لها حلولاً على أرض الواقع لتتحرر منها، وإذا لم تتوفر لها تلك الحلول من الداخل فهي تسعى لأن تستوردها من الخارج مهما ارتفعت أثمانها.
ومن دول العالم مَنْ لا تعتبر ثرواتها الطبيعية هي فقط مصدر تقدمها بل إنها ربما تأتي بالمرتبة الثانية بعد الثروة البشرية المتميزة بالموهبة والتي تُرعى، وتُستثمر من خلال نظم تعليمية غير تقليدية، ووفق أحدث الأساليب التربوية التي تستطيع أن تكشف عن الميول، والاهتمامات، وتكتشف المواهب، والقدرات منذ السنوات الأولى التي يخطوها هؤلاء الأفراد في الحياة، أي منذ الصغر، بينما الأهل يلحظونها بدورهم، ويساهمون في تنميتها داخل الأسرة وإلى جانب الجهات المؤسسية وعلى رأسها المؤسسات التعليمية التي يتم الفرز لديها تبعاً لمستوى الذكاء، وتوفر الموهبة.. فالتعليم الثانوي ومن بعده الجامعي تتكيف مناهجه مع الإمكانيات الفكرية لمن أسعفهم ذكاؤهم بالوصول إليه، أما من يأتون بالمرتبة الثانية، أو الثالثة فأولئك لهم مسارات أخرى في التعليم في مدارس نوعية، أو مهنية تتناسب وقدراتهم الذهنية المتواضعة، أو المتوسطة، إلا أنه لا يُترك أحد دون أن ينال حظاً من التعليم يكون سبباً للتأهيل، والتوعية، والارتقاء بالقدرات، لاسيما في حال التعليم الإلزامي الذي لا يستثني أحداً من صفوفه.
وحتى الإعلام بأشكاله التي أصبحت متعددة لم يعد بعيداً عن البحث عن الموهبة لكنه يكاد يقتصر على مجالات الفنون الترفيهية من رقص، وغناء، وتمثيل، وغيرها، بينما بإمكانه أن يطور من نفسه في بحثه لدى مجالات أخرى هي أكثر أهمية كالعلوم على مختلف فروعها.
إلا أنه في المحصلة لا تكفينا مرحلة البحث عن المواهب على تعدد أشكالها، ومجالاتها مهما كثرت، أو نقصت، إنما الأهم هو رعايتها، وتوجيهها في مسارها الصحيح كنبتة تُروى لتشق تربتها وتصبح شجرة وارفة تؤتي ثمارها.
وها هي الدول المتقدمة باتت أكثر إلحاحاً في حاجتها لمن يدعم مسيرتها التطورية فإذا بها تضع التسهيلات إلى جانب الإغراءات لتستقطب إليها العقول المبدعة، والموهوبين من كل الأجناس، والأعراق، ولا يهم أي بحار، أو سماوات سيعبرون حتى يصلوا إليها.. فالغاية أثمن من أن تقيّدها أصول، وانتماءات مادامت حقائب السفر تحملها أيدٍ لأصحابها قدرات تجعلهم يتميزون بها، ويستطيعون من خلالها أن يبدعوا ويبتكروا.