الثورة- هفاف ميهوب:
يقول أحد شعراء العالم: “يغادر الشعراء ويخلّفون دوماً، فيما يخلّفون، شيئاً أرهقه الزمن والخطيئة والمنفى”..
كلماتٌ تنطبق على كثرٍ من الشعراء الراحلين، ممن تركوا أثراً كبيراً وعظيماً، لكنه الأثر الذي أرهقه الزمن والخطيئة والتشرّد والقلق والجنون والمنفى..
إنه الشّعر الذي سيطر على الشاعر الأميركي “أدغار آلان بو” كما الحب، التحرر، الجنون، ودون إعمال العقل الذي كان يرى، بأن على الشّعر أن يتجاوز قيوده وأحكامه، لينطلق بالقصيدة التي لم يكن ليعترف بها، إلا إذا حرّضته وهزّته، ورفعته إلى ما فوق الحياة..
هكذا كان عالم الشّعر لدى “آلان بو”.. الشاعر الذي كان أكثر ما أرهقه عشقٌ، ما أكثر ما وُجد بسببه ملقى في الشارع وهو غائب عن الوعي.. هكذا كان عالم الشّعر الذي حرّره من عالمِ الفقر والتشرّد واليتم الذي وُلد فيه، ونقله إلى فضاءاتٍ ارتضى أن تحكمها القصيدة، حتى وإن كانت قلقة ومعذبة..
إنه العالم الذي عانى منه أيضاً الشاعر الفرنسي “آرثر رامبو”.. عالم التيه والجنون والتمرّد على القيود.. تلك التي كان أقساها لديه، ملاحقة والدته له ودروسها الصارمة، بل الحياة المنغلقة التي أحاطته بها، فدفعته للهروب إلى الحقول والأكواخ، ودون أن يجد زاداً لروحه ومتنفّساً لأحلامه، إلا في الشّعر الذي تحوّل لأجله، من متشرّد في مدينته، إلى شاعرٍ مجنون يتنقّل بين مدينة وأخرى، بحثاً عن ذاته في عالمٍ لا حدود لمداه.. المدى الذي سعى فيه لرؤية ما وراء الأشياء، حيث الـ “إشراقات” التي استبصرها:
“وشوشات تهمسُ ألحانها المجهولة، وتقود إلى عالمٍ غنيّ بالألوان والآلام..”
لا يختلف حال “رينيه ريلكه” عن حال هذين الشاعرين.. الشاعر الألماني الذي كان قد قرّر ومُذ سنٍّ مبكّرة، الرحيل والتنقّل بين العديد من الدول، التي تبلورت فيها موهبته، وهو ما حوّله إلى شاعر مرهف الإحساس، يؤثر فيه كلّ ما يراه ويدور حوله، ولاسيما قي عالم الغرب الذي جسّد معاناة واضطرابات وتمزّق إنسانه، وعبر قصائد اعتبرها:
“تصوّر أكثر الأشياء غموضاً وتعقيداً، وبأبسط الكلمات وأكثرها سلاسة وعذوبة.. الكلمات التي تجعلك تنضج من الأعماق”..
نعم، يغادر الشعراء.. يرحلون وتبقى الكلمات التي أطلقوها بعد أن نضجوا من الأعماق.. القصائد المرهقة والقلقة والمعذّبة..