في معاينة موضوعية لتحليل وقراءة ما يجري على الساحة العربية عموماً والساحات الوطنية خصوصاً يجعل الحاجة للفكرة القومية الجامعة اهمية استثنائية بل انها ضرورة وحاجة قبل أن تكون حلماً ورغبة شعبية ولعل أحد أهم أسباب ما يواجهه وطننا العربي من مشكلات وتحديات وجودية هو حالة التفكك والتشرذم التي تعيشها الأقطار العربية ناهيك عن عدم قدرة الدولة الوطنية (القطرية) في تحقيق أمنها الوطني وتنمية حقيقية وقدرة على مواجهات التحديات التي تفرضها العولمة وسياقاتها.. فالوحدة العربية ليست ضرورة فقط لأننا أمة واحدة لها الكثير من عوامل بل لأننا نحتاج إليها من أجل التنمية كما أشرنا ورفع مستوى وعيشة وحياة المراطنين وحماية الوطن والشعب والدفاع عن الوجود القومي والمصالح المشروعة للعرب خاصة في عالم تتزايد فيه التكتلات الكبيرة كضرورة للمنافسة والبقاء .
إن حقائق التراكم الذي حققه النضال من أجل الوحدة العربية وتجارب الإخفاق والانتكاس التي تعرض لها والتحديات الكونية تظهر الحاجة الماسة لإعادة قراءة صيغ وأساليب الوحدة او الاتحاد على أسس جديدة ومناسبة وعملية وهذا برأينا هو التحدي الأساسي الذي يواجه القوى القومية العربية وفي مقدمتها حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يرفع راية الوحدة العربية ويواجه اكبر مشروع تفتيتي إرهابي متطرف مدعوم من قوى خارجية وله حواضنه الداخلية على المستوى الشعبي العربي في مساحات هنا وهناك استثماراً في العامل الديني.
إن طبيعة التحديات التي تواجه الدولة الوطنية وتعددها وأشكال الاستهداف الممنهج للفكرتين الوطنية والقومية توجبان وتستلزمان بالضرورة شكلاً متقدماً في طريقة المواجهة وعناصرها وآلياتها وحجم القوى المنخرطة فيها وهذا يستدعي تشكيل كتلة تاريخية عربية واسعة الطيف عبر آلية عمل تتناسب مع مستوى وحجم القوى المنخرطة في المشروع دون أن يعني ذلك تجاهل أدوات التيارات العاملة على الساحة القومية سابقاً أي القومية واليسارية والليبرالية والإسلامية المتنورة المؤمنة بالعلاقة التكاملية بين العروبة والإسلام بالمعنى الحضاري ولاشك أن ذلك يستدعي ايضا التأكيد على فكرة الطليعة بمعناها التقليدي صاحبة الدور التنويري والمحوري في ريادة العمل الجماهيري التوعوي على أن تشكل الصلة بين الأحزاب والجماهير .
إن دور حزب البعث في هذه المرحلة هو دور ريادي ويملك من التجربة التاريخية والرصيد الفكري والتاريخي والمصداقية ما يجعله يشكل حالة الأمل في تحقيق هدف الوحدة العربية وهنا لابد من الإشارة إلى أنه توفر للبعث في سورية قيادات تاريخية استطاعت أن تغني فكر الحزب عموماً وفكرة الوحدة على وجه الخصوص وهنا نستحضر جملة من الأفكار والرؤى العملية التي طرحها القائد المؤسس حافظ الأسد ولاسيما في الموتمر القومي الثاني عشر عام ١٩٧٥ بمقاربة فكرة الوحدة على مراحل وكذلك الاتحاد انطلاقاً من العامل الجغرافي والثقافي والاقتصادي والضرورة العملية والمصالح المشتركة إضافة إلى ما قدمه الرفيق الأمين العام للحزب الرفيق بشار الأسد في المؤتمرين القطريين التاسع والعاشر بالتأكيد على فكرة المصالح المشتركة في مقاربة فكرة الوحدة العربية وإبراز دور العامل الاقتصادي في تشكيل الأرضية المناسبة لذلك من خلال الشراكة في المصالح التي تشكل الأرضية والأساس المتين للبناء الوحدوي الذي لا يستطيع تجاوزه الهوى السياسي للحكام إضافة إلى الانطلاق من بناء الدولة الوطنية القوية التي تشكل الأساس للدولة القومية مع طرح صيغ متعددة للاتحاد أو الوحدة انطلاقاً من قواسم مشتركة اقتصادية أمنية ثقافية تربوية تجمع ما بين دولتين عربيتين أو أكثر ما يجعل جاذبية الفكرة مرتبطاً بجاذبية النموذج ومحققاً للمصالح كفكرة الوحدة التي وردت في المبادئ الأساسية في دستور الحزب انطلقت من اهميتها وموجباتها فالعرب أمة واحدة لها حقها الطبيعي في أن تعيش في دولة واحدة وثمة قواسم مشتركة من لغة وثقافة وتاريخ وجغرافية ومصالح مشتركة وحلم ايضاً هذه الفكرة الجذابة تمت مقاربتها بصيغة الوحدة الاندماجية مع مصر وفي الاتحاد الثلاثي ( اتحاد الجمهوريات العربية ) وفي خطوات وحدوية مع الأردن منتصف السبعينيات أي الوحدة على مراحل وكذلك بصيغة جبهة الصمود والتصدي وميثاق العمل القومي مع العراق وغيرها من صيغ وأساليب..
إذاً نقول بالمحصلة إن حزب البعث وثورته في سورية كان منسجماً مع نفسه ومتصالحاً مع مبادئه في شعار الوحدة العربية والحرية والاشتراكية وطرحها كفكرة ومشروع سياسي واقتصادي واجتماعي وهنا ننوه بما أشرنا إليه سابقاً وهو رؤية السيد الرئيس بشار الأسد لفكرة الوحدة وللضرورة والمصلحة القائمة على الحاجة وطبيعة التحديات والمنفعة العامة والمرونة في الطرح فالقضية بالنسبة لنا ليس ما يطرح من أفكار وإنما في توفر إرادة سياسية عربية لقبول فكرة الوحدة او الاتحاد وهنا تكمن المشكلة ما يستدعي الحديث عن أعداء الوحدة من الداخل والخارج كما ورد في المنطلقات النظرية للحزب التي أقرها المؤتمر القومي السادس عام ١٩٦٣.
أما بالنسبة لتطوير فكر البعث فالمسألة كانت دائماً على جدول أعمال مؤتمراته القومية والقطرية ومفكريه وهي طرحت ومطروحة أمام قيادة الحزب حيث استكملت القيادة المركزية قبل عدة سنوات تقديم رؤية تطويرية لفكر الحزب تحت عنوان بعض المنطلقات الفكرية تتضمن مقاربة جديدة و متجددة لفكر الحزب في الوحدة والحرية والاشتراكية متضمنة الإضافات المهمة للقائد المؤسس حافظ الأسد وبعض الأفكار التي طرحها الرفيق الأمين العام للحزب الرفيق بشار الأسد في خطبه وكلماته ولقاءاته مع القيادات الحزبية ما يشكل من وجهة نظرنا مقاربة عملية وواقعية وثورية لفكر الحزب وتجربته في قيادة المجتمع والدولة ويصلح أساساً عملياً لمشروع مستقبلي يتبناه حزب البعث العربي الاشتراكي على المستوى القومي .
إن سبب فشل بعض التجارب الوحدوية وتراجع الفكر القومي يعود لعدة اسباب منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي.. منها ما هو موضوعي ومنها ما هو ذاتي فالمشكلة ليست في الاحزاب وبرامجها وايديولوجياتها فقط بقدر ما هي مرتبطة أيضاً بالظروف التاريخية التي مرت بها المنطقة والعالم وجملة التحولات التي أصابت المشهد الدولي وانعكاسات ذلك على الأحزب والقوى السياسية ناهيك عن العولمة وإفرازاتها واستطالاتها وتداعياتها وآثارها على المجتمعات والدول والأفراد .
لقد جوبه المشروع القومي العربي وكافة القوى القومية العربية واحزابها ومنها المؤتمر القومي العربي ومؤتمر الأحزاب العربية وغيرهما من إطارات قومية مجابهة حادة من قوى خارجية وعربية مؤثرة وفاعلة ولها صداها في الداخل العربي وصلت الى درجة التدخل العسكري واستخدام كل أشكال الحصار السياسي والاقتصادي والمالي ودعم ذلك من قوى الثورة المضادة والنخب الرجعية والحكام المرتبطون بالقوى الخارجية ولا ننسى المواجهة التاريخية بين المشروع القومي العربي والمشروع الصهيوني وكذلك من مواجهة وعداء للفكر القومي العربي وكل من حمل راية العروبة وخاصة في سورية ومصر .
إن الاشارة لما سبق ينبغي أن لا تحجب عنا ما تحقق من مكتسبات سواء على صعيد الفكرة القومية أو التجارب العملية بإيجابياتها وسلبياتها وما قامت به الأحزاب والقوى القومية ولاسيما المؤتمر القومي العربي وما اطلع به تاريخياً حزب البعث العربي الاشتراكي الذي قدم مشروعاً سياسياً وفكرياً لرؤيته للوحدة العربية ومضمونها الاجتماعي والاقتصادي وصاغة في ايديولوجيا واضحة المعالم والهوية ثقافية الطابع والملامح تتأسس على حامل حضاري متسمة بالتجدد والانفتاح عملية الطابع والمضمون مستوعبة لفكرة التطوير في الصيغ والاساليب محافظة على روح الفكرة والهدف ما أكسبها دينامية وقدرة على التكيف الخلاق مع الظرف التاريخي الذي تمر به المجتمعات العربية والدولة الوطنية وما تواجهه من تحديات تتعلق بالبناء الديمقراطي ودولة المؤسسات وتعزيز فكرة المواطنة وصولا لتنمية حقيقية على المستويين المادي والبشري .
إن المشروع الذي نذر البعث نفسه من أجله وكذلك القوى القومية العربية هو منظومة مترابطة من الأهداف تتصل الواحدة منها بالأخرى يمكن اختصاره بتحقيق الاستقلال الوطني والقومي الناجز والحقيقي في مواجهة الهيمنة والاستلاب والتنمية الحقيقة في مواجهة التخلف والجهل ووعي فكرة العروبة الحضارية الثقافية في وجهة القوى الظلامية المتطرفة والمتخلفة والعدالة الاجتماعية في مواجهة الظلم والاستغلال وتحقيق كفاءة اقتصادية تقوم على الشراكة بين كل القطاعات الاقتصادية والديمقراطية التي تعتبر الأساس لبناء نظام سياسي يجعل جميع أبناء الأمة يساهمون في بناء مستقبلها وهذه بمجملها ليست أهدافاً جديدة بل متجددة في صيغها ومضامينها مع الأخذ في الاعتبار ان ترتيبها لا يعني انه ترتيب اولويات تسبق كل واحدة منها الأخرى وإنما يؤدي تحقيق أي منها الأرضية التي تدفع باتجاه الأخرى وصولاً للهدف الكبير.
السابق