الملحق الثقافي- بقلم الدكتور: جوزيف إلياس كحَّالة:
تمرُّ الذكرى السنويَّة الأولى لوفاة شاعر مدينة حلب، رياض عبد الله يوركي حلاَّق، عابرةً، وكأنَّنا أصبحنا كلُّنا أساتذة، ولم نقرأ، ولو لمرة واحدة، عدداً من مجلَّة الضَّاد الحلبيَّة الشهيرة التي كان الرَّاحل يرأس تحريرها، وقد بثَّ على صفحاتها، كما فعل من قبلُ والده عبد الله يوركي حلاَّق، مؤسِّسُ المجلَّة، الأدبَ والمعرفة في أربعة أصقاع المعمورة.
في حلب النَّشأة
إنّ للتاريخ أحداثاً وجوانبَ متداخلة لا يمكن حصرها في سطور وكلمات. بل وجبَ إبرازها تبعاً لأهميَّتها، لتخدم الحقائق التاريخيّة، وتلمَّ بكلِّ الجوانب. ولمدينة حلب، مسقط رأس رياض حلاَّق، أهميَّة خاصة لجهة أنَّها شاهدة التاريخَ على عَظَمة الفكر والأدب. ففي وصفها تبارى الشعراء من أيَّام الحمدانيِّين إلى أيَّامنا هذه، وعنها كتب المؤرِّخون آلاف الصفحات، وبها تغنَّى المنشدون بأجمل الأغاني والقدود.
وليست مدينة حلب كغيرها من المدن. إنَّها واحدة من أقدم مدن العالَم التي لا تزال الحياة تنبض في كلِّ ركن من أركانها، وإن عرفت الخراب والزلازل والحروب والدمار في تاريخها الطويل. هي، في كلِّ مرَّة، تنهض من حافة الموت، لتستأنف دورة الحياة على ترابها، ولتبقى عروساً لأبنائها، بقلعتها الشامخة وحجارتها البيضاء وصروحها البديعة الخالدة.
في الرَّجُل
في هذه المدينة وُلد واحد من أئمَّة الفكر والأدب. إنَّه الشاعر رياض عبدالله حلاَّق، وما من أحد في عالَم الفكر والأدب يجهل هذا الشاعر الأديب الفذّ. فقد ملأت شهرته المجامع والمحافل الأدبيَّة شرقاً وغرباً.
نعم، وُلد رياض في حلب يوم 24 كانون الأوَّل من العام 1940. وقد أدخله والداه إلى مدرسة المعهد الفرنسي العربي «اللاييك» حيث درس المرحلة الابتدائية. بعد ذلك انتقل إلى معهد «الفرير ماريست» الذي يُعرف الآن بـ « معهد الأخوة». وفي نهاية المرحلة الثانويَّة، انتقل درس الحقوق في جامعة مدينة حلب.
بدأ حياته العمليَّة بتدريس اللغة العربية وقواعدها، في عدد من المدارس الرسمية والخاصة بحلب، من بينها مدرسة «القديس نيقولاوس» لطائفة الروم الكاثوليك، والتي عُرفت في ما بعد بثانويَّة التعاون الخاصة. وكان ذلك من عام 1963 حتى 2001.
فكره وأدبه
نظم رياض حلاَّق، منذ يفاعته، الشعر العربي الأصيل، فكتب القصيدة العموديَّة، كما كتب قصائد الغزل التي يقول عنها :إنَّها مفتاح الشعر لأنَّها تؤجِّج الشعر، والشعر هو الشعور. كما أنَّه نظم قصائد في الرثاء والوجدانيَّات. وله ديوان شعر، جمع فيه العديد من قصائده، سمَّاه «حصاد السنين».
كان والده يقرأ شعره، فتارةً يمزِّق القصيدة، قائلاَ له: «هذا صفُّ كلام»، لا أريدك ناظماً، بل شاعراً أصيلاً، وتارةً يشجِّعه ليتابع النظم بحَسَب قواعد الشعر الأصيل.
إنَّ لشعر رياض حلاَّق سمة خاصَّة، فهو شعر يميل إلى الجزالة والوضوح وسرعة الايصال، ودفق الشُّعور من دون العبور في متاهات الحداثة. فالصُّورة موروثة ومطروقة، واللُّغة أصيلة، والمضامين مألوفة وسامية، وهذا ما جعل الآخرين يشيدون بتجربته الشعريَّة. وممَّا نلاحظه في قصائد رياض تجربة شعريَّة متكرِّرة، لكنَّها تخصُّ لغته الخاصَّة. وهذا ما يدلُّ على أنَّه قادرٌ على تقديم لغةٍ مغايرة بحَسَب مقاس الموضوع والشَّكل. فالصُّورةُ، في قصائده، تلامسُ القارئ بلطْفٍ، واللُّغة تُدغْدغ مشاعره برقَّتها وعذوبة معانيها. وهو يُوفَّقُ في اختيار القوافي والرَّويّ في قصائده الوجدانيَّة التي نظم فيها الشّعر الصافي، فيظهر لنا عالمه المُحبَّب ونوازعه التي يحرص عليها، والتي يبوح بها من دون صدٍّ أو تردُّدٍ لأنَّه يخلص للحالة الشعريَّة.
إلى هذا، كتب الحلاَّق القصة والمقالة. ونشر نتاجه الأدبي في مجلَّتي الضاد والكلمة الحلبيَّتَين، وفي نشرة أبرشيَّة حلب للروم الكاثوليك. وجاء دخوله عالم الكتابة بعد أن هيَّأ نفسه لهذا العالم الواسع، إذ أتقن أدبيَّات اللغة العربيّة ومسالكها، وأحبَّها، إلى أن أبدع فيها. وبالإضافة الى كتابته المقالة، فقد صدَّر لعدد كبير من المؤلَّفات للكَتَبة العرب. وقد حظيتُ شخصيًّا بأن صدَّر لأكثر من مؤلَّفٍ من مؤلّفاتي، كان آخرها في العام 2021، كتاب «المتروبوليت ناوفيطوس إدلبي» الصادر عن دار نعمان للثقافة.
تجدُه لا يهدأ
وألقى رياض حلاَّق في المناسبات الوطنيَّة والمؤتمرات العديدَ من القصائد الوطنيَّة والوجدانيَّة والغزليَّة والأخوانيَّة، وشارك في عدة مؤتمرات أدبيَّة وفكريَّة، وأحيا عدداً من الأمسيات الشعرية والمحاضرات الأدبية والفكرية في سورية والوطن العربي والمهجر، بما في ذلك القارة الأميركيَّة، من مثل مؤتمر مجلس الكنائس في نيقوسيا، قبرص.
1989. وقد دُعي لزيارة الصين، في العام 1991، فألقى محاضرات في جامعتَي بكين وشنغهاي عن الحركة الأدبية في سورية بعامة، وحلب الشهباء بخاصة. كما دُعي في العام 1998، الى المهجر الأميركي، ولا سيَّما إلى كندا، فألقى من على منابر محافلها المحاضرات. أمَّا فنزويلاَّ فزارها، والتقى بالجاليات العربيَّة فيها، وألقى المحاضرات الأدبية والفكرية والشعرية في أكثر من أربعة عشر نادياً عربيّاً فيها، وكذلك استضافته الإذاعة العربيَّة في كراكاس عام 1998. وقد شارك عام 2002 في مؤتمر البابطين في الرياض، كما شارك في العام 2003 في مئوية كرم ملحم كرم في قصر الأونيسكو ببيروت. وفي العام 2004، شارك في مؤتمر ابن زيدون في قرطبة، إسبانيا. وفي العام 2005، شارك في مدينة عمَّان،الأردنّ، بمهرجان ذكرى علاَّمة الأردنّ روكس بن زائد العزيزي. كما شارك، في العام 2006، في مؤتمر شوقي ولامرتين بمدينة باريس. وفي العام عينه شارك في مهرجان الشعر العربي في المهجر في عمَّان، الأردنّ، وفي مؤتمر الشعر العالمي في نواكشوط، موريتانيا. وزار سنة 2009، مدينة بروكسل على دعوة من الرابطة السورية في بلجيكا، وألقى عدَّة محاضرات. وشارك سنة 2010، في مؤتمر خليل مطران وماك دزدار في مدينة سراييفو بالبوسنة. وفي شهر أيار 2014، دُعي من قبل جامعة البلمند، لبنان، للاشتراك في مؤتمر جرجي زيدان. إلى غير ذلك من المؤتمرات واللقاءات الخاصة والعامة.
ويقول رياض عبدالله حلاَّق :إنه زار دول الوطن العربي كلَّها، عدا السودان. كما أنَّه زار معظم الدول الأوروبيَّة مُشاركاً في العديد من المؤتمرات. أذكر أنَّه هاتفني يوماً من حلب، قائلاً :إنَّه سيأتي إلى باريس لحضور مؤتمر حول شوقي ولامرتين، ويأمل في أن نلتقي. فذهبت للقائه في الفندق، وإذ بي ألتقي هناك، وللمرة الأولى، الأستاذ الكاتب والمفكِّر، الدكتور عبد الله نعمان. ومن يومها بدأت رحلة صداقتنا، وما زالت مستمرة. أمَّا الأستاذ رياض، فأذكر أنني رافقته لزيارة معهد العالم العربي حيث عرَّفته على الأستاذ الكاتب والمفكِّر فاروق مردم الذي كان يومها يشغل منصباً إداريّاً هامّاً في المعهد. كذلك جمعته في لقاء مع السيد إريك دوروترو، نجل الكاتب المستشرق الفرنسي جورج بلوا دوروترو الذي كتب الكثير عن تاريخ مدينة حلب وقلعتها، والمدن من حولها.
بين الضَّاد والكلمة، وعضويَّات
تسلَّم رياض حلاق، في العام 1962، شعلةَ إدارة مجلَّة «الضَّاد» التي أصدرها والده عبد الله يوركي حلاَّق في عام 1931. وفي عام 1992 نقل عبد الله يوركي حلاَّق امتياز مجلَّة الضَّاد، إلى أبنائه، وأضحى رياض من أصحاب الامتياز، والمدير المسؤول. ومثَّلت «الضَّاد» لرياض أختا كبيرة، ذلك أنَّها انطلقت في مسيرتها عشر سنوات قبل ولادته. أمَّا مجلَّة الكلمة الحلبيّة التي أصدرتها «جمعيَّة مشاريع الكلمة الخيريَّة»، فأُسندت إليه رئاسة تحريرها من العام 1996 إلى تاريخ احتجابها في نهاية العام 2012. ومن المعلوم أنَّ رياض حلاَّق كان عضوَ الجمعيَّة منذ العام 1962. كما كان عضوَ «جمعيَّة العاديَّات» منذ عام 1962 واضطلع فيها بمهمة عضويَّة مجلس الإدارة وأمانة السر لمدَّة سبع دورات متتالية من عام 1991 وحتَّى العام 2005.
شغل منصب عضو في «اتحاد الصحفيِّين العرب» منذ تأسيسه في سورية عام 1969. وكان عضوَ «جمعيَّة الجغرافيِّين» في سورية. شارك في تأسيس جمعيَّة الوفاق الوطني، «معًا نحيا»، وكان من أعضائها، كما كان عضوَ معظم الجمعيَّات الثقافية والفنية والخيرية في حلب، وفي سوريا بعامَّة.
هذا، وانتُخب في العام 1991 عضوَ مجلس محافظة مدينة حلب لمدة أربع سنوات، وجُدِّد انتخابه للمرة الثانية في العام 1995.
تكريمات
كرِّم رياض حلاَّق في العديد من المناسبات، ولا سيَّما في لقاء الأربعاء (صالون ناجي نعمان الأدبيّ الثقافي، نيسان 2009)، وحاز عددًا من الجوائز، منها، في العام 2009، جائزة مسابقة عكاظ الشعريِّة الثالثة عشرة، وجائزة الأديب متري نعمان للدفاع عن اللغة العربيَّة وتطويرها في العام عَينه، من ضمن جوائز ناجي نعمان الأدبيَّة الهادفة، وجرَت طباعة كتاب «حصاد السنين» للمناسبة، ووُزِّع بالمجَّان، من ضمن سلسلة «الثقافة بالمجَّان».
أمَّا وزارة الثقافة السوريَّة، فكرَّمته في 10 حزيران 2010، من ضمن حفل كبير أقيم في مديريَّة الثقافة بمدينة حلب، تحدث فيه عدد من أدباء الوطن العربي والمهجر، بالإضافة الى أدباء من سورية. وفي 17 كانون الأوَّل 2010، قلَّده بطريرك الروم الكاثوليك، غريغوريوس الثالث لحَّام، وسامَ صليب القدس، وتمَّ ذلك في حفل كبير أقيم في مطرانية الروم الكاثوليك بحلب. ونال في العام 2011 جائزة الباسل من مجلس مدينة حلب، عن محور الدراسات الفكرية التي قدَّمها من خلال مسيرته الكتابيَّة.
مؤلَّفاته:
وضع رياض حلاَّق العديد من المؤلَّفات، وله آلاف المقالات. ومن كتبه:
– دراسة نقدية في أدب الدكتورة سعاد الصباح، 1994.
– من نوادر الضاد ، 1995.
– ثمار الضاد في رحلة العمر، لمناسبة مرور 75 عاماً على انطلاقة الضاد، 2007.
– عبد الله يوركي حلاق في معابر الذكرى والوفاء، 2007. صدر لمناسبة مرور عشر سنوات على رحيل عميد «الضاد»، وجمع فيه رياض عددًا من المقالات التي كتبت بهذه المناسبة. ولنا مقال فيه، ص 309-314.
– من حصاد السنين، ديوان شعر من منشورات جوائز ناجي نعمان الأدبيَّة، دار نعمان للثقافة، لبنان، سلسلة الثقافة بالمجان، 2009.
– وجوهٌ عرفتُها، الجزء الأوَّل، 2010.
– رحلة العمر في أدب الرحلات، منشورات مجلة «الضاد»، حلب، ويسرد فيه أخبار رحلته إلى المهجر الأميركي وكندا وفنزويلا وما لقيه هناك من تكريم، واتصاله بالجاليات العربيَّة والحلبيَّة.
– حصاد السنين (المجلَّد)، 2014، ويتضمّن أعماله الشعرية الكاملة خلال نصف قرن. فيه قصائده العمودية في الوطنية والغزل والرثاء والوجدانيَّات والمناسبات الاجتماعيَّة.
– قطاف الأربعين، وهو كتاب نثري، جمع فيه مقالاته الاجتماعيَّة والفكريَّة والوطنيَّة كتبها خلال مسيرته الأدبيَّة بين 1962 و2014.
– وجوهٌ عرفتها، الجزء الثاني، 2016.
وثمَّة في رياض حلاَّق كتابٌ بعنوان «رياض عبدالله يوركي حلاق مكرَّماً»، وذلك لمناسبة تكريمه في العام 2010، وهو هديَّة مجلَّة الضاد لقرَّائها.
… وإلى دار الخلود
رحل الشاعر رياض عبدالله يوركي حلاَّق يوم الثلاثاء 28 كانون الأوَّل 2021 عن عمرٍ ناهز 80 عاماً في داره الكائنة في مدينة جونية بلبنان؛ رحل بعد مسيرةٍ حافلة بالعطاء الأدبي والثقافي. وقد نُقل جثمانه إلى مسقط رأسه مدينة حلب بناءً على أمنيته، فصُلِّي عليه بحضور رجالات الأدب والشخصيَّات الدينيَّة والرسميَّة، ووُري في مدافن العائلة.
العدد 1128 – 17-1-2023