الملحق الثقافي- أحمد بوبس:
الموسيقار محمد عبد الوهاب ارتبط بعلاقة خاصة مع سورية. وتمثلت هذه العلاقة بزياراته الكثيرة لسورية التي تربو عن زياراته لأي دولة عربية أخرى، وكانت مصيفه الأثير بلدة بلودان التي كان يقضي فيها شهراً كاملاً كلّ سنة، هو شهر آب. وله في هذه الزيارات ذكريات لاتُنسى، وشهدت أحداثاً مهمة، جعلت من سورية جزءاً مهماً لايمكن تجاهله في حياة الموسيقار الكبير.
أولى زيارات محمد عبد الوهاب إلى سورية كانت عام 1930، وفي دمشق أقام النادي الموسيقي السوري حفلة تكريماً له. وفي الحفلة غنى عازف العود عمر النقشبندي عدداًمن أغنيات عبد الوهاب، ومنها قصيدة (يا جارة الوادي)، وعندما وصل إلى المقطع الذي يقول (وتعطلت لغة الكلام / وخاطبت عيناي في لغة الهوى عيناك) أجرى تغييراً في لحنا، وأداه بطريقة مختلفة عما في الأغنية الأصلية، وأعجب محمد عبد الوهاب بهذا التعديل، وفي اليوم التالي أحيا الموسيقار حفلة في مسرح العباسية الذي كان موقعه مكان فندق (سميرة أميس) بجانب جسر فيكتوريا بدمشق، ومما قدّمه فيها قصيدة (يا جارة الوادي)، وعندما وصل إلى نفس المقطع (وتعطلت لغة الكلام) أداه بنفس طريقة عمر النقشبندي، وكان عمر النقشبندي يجلي في الصف الأول، فأشار عبد الوهاب إليه بأصبعه، وكأنه يقول له (هذه لك يا عمر).
بعد حفلة دمشق أحيا محمد عبد الوهاب حفلتين في حمص، فملأت الإعلانات شوارع حمص تعلن عن حفلتي مطرب الملوك والأمراء في (تياترو الروضة)، وموعد الحفلتين الساعة التاسعة مساء يومي الأربعاء 2 تموز والخميس 3 تموز عام 1930. ثم انتقل إلى حماه فأحيا حفلتين أيضاً. ثم انتقل إلى حلب، وفيها حدثت معه حادثة غريبة عجيبة. فقد اتفق معه متعهد الحفلات على حفلتين، وعندما حان موعد الحفلة الأولى واصطفت الفرقة الموسيقية على المسرح، دخل عبد الوهاب خشبة المسرح ونظر إلى الجمهور خلسة من طرف الستارة فوجد المسرح خالياً إلا من عدة رجال عجائز، فذهب إلى متعهد الحفلتين واحتج على ذلك، فقال له المتعهد إن عليه أن يغني وسوف يتقاضى أجره كاملاً، وغنى محمد عبد الوهاب على مضض، وجاء موعد الحفلة الثانية، وايضاً اختلس الموسيقار النظر إلى المسرح من طرف الستارة، فشاهد العجب العجاب، المسرح ممتلئ عن آخرة بثلاثة آلاف من الجمهور جلوساً ونحو ألف وقوفاً، وغنى ولكن هذه المرة بمنتهى السلطنة، وبعد الحفلة سأل المتعهد عما شاهد في الحفلتين، فأجابه (إن جمهور حلب لا يغامر بالحضور لمطرب جديد يقدم غناءه في المدينة لأول مرة، والذين حضروا في الحفلة الأولى هم السميعة في حلب، فإذا أعجبهم المطرب دعوا الناس للحضور في الحفلة الثانية، وإذا لم يعجبهم طلبوا منهم عدم الحضور، وأنت أعجبتهم، فطلبوا من الناس الحضور، وامتلأ المسرح كما شاهدت.
وفي طريق عودة محمد عبد الوهاب من حلب إلى دمشق استضافه أحد وجهاء حماة من آل البرازي في قصره الذي كان يطل على نهر العاصي والنواعير، وكان من كبار اقطاعيي حماة. وأقيمت للموسيقار سهرة كبيرة حضرها الوجهاء والمتنفذون في حماة. وطلب منه الحضور أن يسمعهم بعضاً من غنائه، لكنه اعتذر لأن هذا ليس وقت الغناء، وفي نهاية السهرة، خصصوا له جناحاً في القصر ليبيت فيه، وكلفت خادمة اسمها حُسن لتخدمه، وطلب منها صاحب القصر أن تبقى دائماً بجوار الموسيقا لتلبي ما يطلبه فوراً.
وعندما سجى الليل خرج الموسيقار إلى الشرفة يستمتع بمنظر العاصي وصوت نواعيره، فتبعته الخادمة حسن، ملازمة إياه كيفما تحرك. وفي وقفته في الشرفة متأملاً جلست حُسن على الأرض بجانبه، وفجأة قالت له :
– سيدي غني لي.
وهز طلب الفتاة الموسيقار الكبير، وأخذ يغمي لها. وفي سكون الليل ملأ غناؤه القصر، فأطل قاطنيه من النوافذ والشرفات يستمعون إليه، وفي اليوم التالي كان حديث الناس (الموسيقار محمد عبد الوهاب رفض الغناء لعلية القوم، وغنى لخادمة).
الزيارة الثانية لمحمد عبد الوهاب إلى سورية كانت عام 1932، حين أقامت الحكومة السورية احتفالاً لتكريم أمير الشعراء أحمد شوقي، وحضر محمد عبد الوهاب بصحبته. وأقام رئيس الجمهورية محمد علي العابد حفل استقبال للأدباء المشاركين. وفي تلك السهرة طلب بعض الحضور من الشاعر الأخطل الصغير أن يسمعهم شيئاً من شعره، فأسمعهم أربعة أبيات نظمها حديثاً، وهذه الأبيات هي :
الهوى والشـباب والأمل المنشـو
د توحي فتبعث الشـعر حيا
والهوى والشباب والأمل المنشو
د ضـاعت جميعها من يديا
يشـرب الكأس ذو الحجى ويُبقي
لغـدٍ في قرارة الكأس شــيّا
لم يكـن لي غـد فأفرغـت كأسـي
ثـم حطـمتها علـى شـــفتيّا
أعجب محمد عبد الوهاب بالأبيات، لكن أربعة أبيات لا تصنع أغنية، فطلب من الأخطل الصغير إضافة أربعة أبيات أخرى إليها، ليكتمل عقد الأغنية، وأمضى الأخطل الصغير ليلته تلك ينظم أربعة أبيات أخرى، ضمنها أرق المعاني الغزلية وأجملها، ودفعها في اليوم التالي إلى عبد الوهاب، الذي بدأ ذهنه في وضع الإطار اللحني للأغنية، وأكمل تلحينها في القاهرة، وطبعت على اسطونات شركة بيضا فون، لتنضم إلى درر القصائد التي لحنها وغناها عبد الوهاب، مثل (الصبا والجمال) و(النهر الخالد) و(يا جارة الوادي) وغيرها…
منذ أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، أصبحت بلدة بلودان المصيف المفضل والدائم للموسيقار الكبير. فكان يمضي فيها شهر آب من كل سنة، في فندق بلودان الكبير، وقبله يقضي شهراً في مصيف عاليه بلبنان، واستمر هذه التقليد حتى عام 1977، عندما توقفت زاياراته واصطيافه في بلودان بسبب نشوب الحرب الأهلية اللبنانية، وتعذر مجيئه إلى لبنان ومن ثم إلى سورية.
العدد 1128 – 17-1-2023