الملحق الثقافي- مها محفوض محمد:
في كتابه الذي نشر للمرة الأولى والذي يحمل عنوان (مركبة فضاء الفقراء) ويظهر دالي بأنه لا يزال مهووسا.. يتذكر ميشيل ديون لقاءه الأول مع سلفادور دالي.
كان ذلك خلال شتاء عام 1951 في نيويورك وذلك أمام الصحفيين في بهو فندق سان ريجيس.. يقول ديون : (كان لدي انطباع مؤلم عن دالي الذي بدا لي وكأنه يقوم بأداء دور مسرحي عن شخصية دالي لكن كان ينتابني شعور أيضاً بأنه حين يدفعه الصحفيون إلى شططه وتجاوزاته كان يغدو ضعيفاً ( وعندما أصبحنا أصدقاء فيما بعد تيقنت من شعوري بأنه سريع العطب.. ويستحضر ميشيل ديون فترة تلك الصداقة في كتابه )حقائب من أجل فانكوفر ( وقد كرس الكاتب نفسه ليكون معبراً إلى العبقرية المعذبة في )مرفأ ليغات ( وهو الذي قام حقيقة بتحويل نصين لدالي إلى عرض مسرحي(المخدوعون بالفن القديم الحديث ( و(مذكرات عبقري ).. ولماذا هذا التحويل أو التكيف معه ? لأن دالي يكتب بالفرنسية كما يتكلمها وكان يخط أفكاره على دفاتر مدرسية أو على أوراق مبعثرة، فهذا الاقتباس هو إعادة ترتيب في الفكر المتدفق ويعني أيضاً الاطمئنان إلى كتابه بشكل املائي صحيح لأن المؤلف الذي هو من أصل كتلاني لم يكن يعر اهتماماً للإملاء.
في أحد الأيام سلم دالي إلى ميشيل ديون نصاً جديداً عنوانه )مركبة فضاء الفقراء( وكان لعنوان هذا النص دلالة خاصة إذ إنه في نهاية الخمسينات عندما استطاع السوفييت إطلاق مركبة سبوتينغ ووضعها في مدار حول الأرض، دالي لم يفته الحدث إذ كان يتابع أخبار الساعة جيداً، وبما أن هذا النص أثار إعجاب جان كلود فاسكيل عرض هذا الأخير على ميشيل ديون أن يقوم بنفسه بعملية الاقتباس هذه إلا أن الناشر أضاع المخطوطة المنسوخة التي سلمها له ديون.. وأعاد فاسكيل طلبه مرة أخرى من أجل أن ينجز عمله لكن ديون رفض وبقيت لديه ليمضي عليها أكثر من خمسين عاماً.. وكان مصير الصفحات الثلاثين التي تتألف منها رواية )مركبة الفضاء ( هذه أن انتهى بها المطاف على طاولة أحد الناشرين وهي أليس ديون ابنة ميشيل نفسه وهي المديرة المسؤولة عن دور نشر )الطاولة المستديرة ( وتم نشر المخطوطة طبق الأصل حسب النص الأصلي وكانت مكتوبة على دفتر مدرسي حمل عنوان : تريفولي )الجنون المثلث ( وترافقت بنصها المقتبس المنجز بواسطة جان جاندارم وقد استخدمت ملاحظات هوامش دالي والتي ساهمت بشكل كبير في كتابة )مذكرات عبقري ( كما كان هناك وثائق مؤلفة من ملاحظات قارىء وعقود وصور أكملت هذا العمل.
ماذا يحمل هذا العمل?
القصة ببضع كلمات تتحدث عن امرأة خادمة مصابة بمرض الوسواس القهري للنظافة، وقد تحملت مسؤولية رجل مقعد عمره أربعون عاما، وبعد أن استخدمته للتسول قررت أن ترمي به بين جدران منزلها لتقوم بعدها بحراسته وإطعامه العنب المجفف ثم تتخلى عن وسواس النظافة وبأعصاب باردة تستلسم للقذارة يقول دالي: هذه المرة حتى القارىء الغبي سيفهم قصدي ألا وهو : اغسل ما لايمكن غسله واصقل ما لا يمكن صقله.
إنه هزل محزن وهزل مبهج في آن واحد، فهذه الرواية (مركبة فضاء الفقراء ) تنتمي إلى القريحة الانفعالية الهذيانية لدى دالي الذي لم يضع حدًا نهائياً لسنواته مع رفاقه السرياليين.
ويمكن وضع هذه الرواية ضمن ما سمي ملاحظات تحضيرية لما بعد (حياة سرية لسلفادور دالي) كما يصح أن نصف هذا الكتاب بالقول : إن هناك الكثير من التثبت بأمر لا يستحق ذلك.. وهذا يشبه ما قاله أراغون عن دالي : بأن لديه الكثير من الوصولية لقليل من الوصول.. وهذا شيء بشع، ذلك هو دالي.
وعن سلفادور دالي روائياً يكتب ابراهيم العريس في اندنبدنت العربية قائلاً :
نعم طويلة ومملة!
والحال أن رواية دالي وعنوانها «وجوه مخفية» أتت إذ كتبها عام 1943، وكان مقيماً في نيويورك، دفعة واحدة تقريباً، أتت مستجيبة تماماً لهذين الشرطين، فهي ليست في نهاية الأمر سوى سلسلة لقاءات وحوارات ومواقف تدور بين مجموعة من مثقفين وأناس من علية القوم جمعتهم مناسبة ما في قصر فخم، وراحت تعبث بهم الأهواء العاطفية والتطلعات المستقبلية والذكريات الحادة وتبدل العلاقات في ما بينهم، وكل ذلك من حول حكاية حب هادئة أنيقة تنتمي إلى نوع مبتكر من العاطفة أعطاه دالي في الرواية اسماً غريباً هو «الكليداليزم» على اسم أحد طرفي تلك العلاقة.. ولنقل على الفور إنها علاقة أرستقراطية تنتمي إلى نمط شديد الحداثة من حكايات الحب في الطبقات المخملية، ومن هذه الناحية، يبدو واضحاً أننا هنا أمام كلاسيكية في الموضوع والأسلوب تريد لنفسها أن تنتمي إلى عوالم مارسيل بروست في تحفته «البحث عن الزمن الضائع» التي لا يخفي دالي أنه إنما أراد محاكاتها، بيد أن بروست لا يبدو وحيداً كملهم هنا للرسام السوريالي، وقد طوب نفسه كاتباً شديد الأناقة ولو لمرة واحد، بل إنه يجد في رفقته كاتباً كبيراً آخر، أكثر كلاسيكية منه على أي حال، من كبار الروائيين: ستندال.
بين الداخل والخارج
فإذا كان دالي يستوحي بروست مبدع بدايات القرن الـ20 للاشتغال على العوالم الداخلية لشخصياته، ها هو يستلهم روائي القرن الـ19 الكبير، ستندال، لتصوير الأجواء الخارجية للرواية، أي ما يدور في العالم البراني خارج الإطار المغلق للحياة العليا التي تعيشها شخصيات الرواية الأساسية.. وهكذا على خطى صاحب «الأحمر والأسود» و»دير بارما» يضع دالي شخصياته التي تعيش حياتها ببطء شديد «كما يفعل راكبو سيارة في رحلة طويلة»، بحسب تعبير ناقد فرنسي كان من أوائل الذين كتبوا عن الرواية، يضعها على تماس، وإن من بعيد بعض الشيء، مع سلسلة الأحداث التاريخية والسياسية بل حتى الحربية التي تحدث من حولها «في العالم الواقعي» بصورة قد تبدو متناقضة مع ما يحدث في «العالم الروائي» الذي جر الكاتب شخصياته لتعيش فيه.
وهكذا، لئن كانت تلك الشخصيات تعيش منغلقة على عوالمها، ها هو القارئ يجد نفسه على تماس مع تلك الأحداث الكبرى التي كانت باريس، ميدان الرواية، والعالم بشكل عام يعيشانها بدءاً من انتفاضة 1934 في إسبانيا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث نرى دالي يستبق الأحداث جاعلاً من تبقى من شخصياته تحتفل راقصة فوق المتاريس على جبهات القتال، وذلك بعد أن كانت عايشت كل تلك الأحداث الكبرى كما تعايش شخصيات ستندال أحداث زمنها.
العدد 1128 – 17-1-2023