نزف روح وفعل حياة المبدعون: نكتب لتزهر الحياة أملاً جديداً

الملحق الثقافي- فاتن دعبول:
يسعى الكتاب والمبدعون للكتابة من أجل النهوض بالمجتمع، يقدّمون عصارة فكرهم وتجاربهم لتكون معيناً لا ينضب لكلّ عابر في الحياة يريد أن يبحث في شؤون الكون ويتفكر في مفردات المجتمع، ليقف عند أهم المحطّات التي يمكن أن تعينه على البحث والاكتشاف، ولتكون له منارة يهتدي بها في ظلّ واقع مليء بالمتناقضات، فتكون هذه الإبداعات عوناً له، يكمل المشوار متسلحاً بما فاضت به قرائح المبدعين.
ولكن ماهي رسالة المبدع حقاً، وهل تكون هذه الكتابات حقاً ملاذاً لكلّ متعب يبحث عن دفء الأمان؟
جنة الكاتب
ويرى الدكتور عبد الله الشاهر أن السؤال يتسع للكثير مما تتضمنه الكتابة من آثار، سواء على الصعيد الذاتي أو الاجتماعي، يقول:
لماذا نكتب؟ سؤال كبير لفعل إنساني، والكتابة خاصية إنسانية فردية وليست جماعية، فعل فردي يؤثر في الجماعة، والكتابة تعبير ذاتي موجه نحو الذات الاجتماعية من أجل التأثير بها وتطورها، فالكتابة حالة وعي تستهدف المجتمع ويمكن الاستفادة منها لخلق مجتمع أكثر وعياً ورقيّاً.
أما الكاتب، فلماذا يكتب؟ فلأن حاجة ملحة في أعماقه تدفعه للكتابة وهذا مشمول بالخلق، وهو خلق إنساني من نوع جديد، وكذلك نكتب لأن عقدة الخلود مازالت قائمة في لا وعينا، وعندما نكتب نحظى بخلود من نوع خاص، نحظى بأولئك الذين يستعيدوننا من خلال ما نكتب، فالكتابة إثبات للذات عبر السيرورة الاجتماعية.
أما ما جدوى الإبداع والكتابة، فالإبداع حالة فكرية تشكّل خطوة نحو الأمام، والمبدع هو الذي يساهم في بناء المجتمع الإنساني وتطوره، ولولا الإبداع لما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم من تطور وتقنية.
وبشكل عام فإننا نكتب من أجل إثبات ذواتنا والإفراج عن قدراتنا، وأن نخلق من حالة البوح الداخلي أسلوب حياة، أو حالة فرح أو حتى حالة حزن، لكنها تضيف إلينا شيئاً جديداً.
الكتابة جنة الكاتب، لا يصل إليها بالممارسة، وإنما بالإبداع، والإبداع حلم الحقيقة يصوغه الكاتب علّه يجد مجالاً في الساحة الاجتماعية.
يرتقي بالذائقة البصرية
ولا يقتصر الإبداع على فعل الكتابة، إذ يمكن للفن والحديث بالريشة واللون أن يكون له الأثر الكبير، وخصوصاً أننا اليوم في عصر الصورة المعبّرة، والرسم الشاهد على العصر، والناطق بكلّ ما يحدث، وربما يكون الأقدر على التعبير، لأنه ينبع من إحساس مرهف، وعمق في الدراية والتحليل، يقول الدكتور محمد غنوم:
وفي البداية يتساءل الدكتور محمد غنوم هل هناك إبداع بلا جدوى؟ بالتأكيد ليس هناك إبداع بلا جدوى، بالطبع هناك جدوى كبيرة، ولكن ربما لا تكون مباشرة، بل يمكن أن تكون آنية أو على المدى البعيد، لكن الإبداع في حالاته جميعاً له جدوى كبيرة تؤثر في المجتمع تأثيرات مختلفة، وفقاً لثقافة ونوعية الشرائح المجتمعية، ولكن في كلّ الحالات جدوى مهمة.
وفي مجال فن الرسم، فالجدوى الأولى التي تتحقق من خلال فن الرسم، هي رفع الذائقة البصرية للجماهير، لأن الإنسان وبشرائحه كافة، لابدّ أن يتعامل مع فن الرسم، سواء كان بشكّل مباشر أو غير مباشر، والبعض يأخذ فن الرسم أساساً لحياته، وهؤلاء ربما سيكونون فنانين في الرسم، ويسعون إلى أن تتسم أعمالهم بالإبداع والابتكار، لتحقيق الأجمل والأكثر ابتكاراً وإبداعاً.
وفي فن الرسم وللأسف أقولها :إن الفن التشكيلي في بلادنا لا يزال غير جماهيري إلى حد كبير، وهذا عائد إلى أسباب كثيرة، منها الجمهور ومن ناحية أخرى هو الفنان الذي يجب أن يوصل فنه إلى الجمهور، فالإبداع في الفن يدهش المشاهد فيهتم به، وهنا ترتفع ذائقته البصرية ويتحقق جدوى الإبداع في فن الرسم، عندما نقدم للجمهور فناً مبتكراً فيه إبداع وإدهاش ويحمل رسالة، ويسير مع الجمهور ليتحقق انتصار الجمال في النهاية.
ولا يمكن أن نتجاهل أنه الفن التشكيلي في بلادنا بدأ يأخذ مكانته، عبر افتتاح معاهد فنية، وكلية الفنون الجميلة في أكثر من محافظة، وفي الآن نفسه بات هناك مسابقات وتنافس بين الفنانين، لتحقيق الابتكار الذي سيساهم بشكّل كبير في رفع الذائقة البصرية للجمهور، وعلى الرغم من الظروف الصعبة في بلدنا الحبيب، لم يقف الفن ولم تتوقف المعارض، لأننا نحن صنّاع الجمال في الماضي والحاضر، ولا بدّ أن ينتصر الجمال، لأنه أحد أهداف الإبداع.
فالفن يجب أن يبنى على فكر وثقافة، ويبنى أيضاً على تجربة واحترام ما قدّمه الأجداد الذين أثبتوا للعالم أنهم صناع حضارة وهذه الحضارة امتدت ليكون أثرها في أصقاع الأرض، ونحن اليوم عندما نحقق الإبداع في فن الرسم، ستكون أول الأمور التي نلمسها هو تجديد الجمال في زمان ومكان، ويثبت للعالم على أن الإبداع في حالاته كافة يحمل رسالة لا يمكن أن تمحى في أي حال.
فجدوى الإبداع متجددة، وهناك شرائح مختلفة تستفيد وتتأثر بجدوى الإبداع، وفي الآن نفسه تحمل هذه الذائقة البصرية في كلّ حالاتها، سواء على الصعيد الاجتماعي والمعيشي، أو على الصعيد النفسي، فالفن أينما يحل يترك بصمته الجمالية في النفوس والقلوب الدافئة.
الكتابة .. نبض حياة
ويبدأ الأديب محمد الحفري بالقول، تسألين لماذا أكتب، تمنيت أن تسأليني هل تستطيع العيش من دون كتابة، لأنني عندها سأقول لك أنني أتنفس لأكتب، وكلّ نبضة مني تحاول أن تفعل ذلك.
يقول: أنا أكتب كي لا يزيد نزف الجراحات الدامية، وكي لا ينفتح ويتفتق ما اندمل منها، علّها تطيب وأعيد كواكب عمري من التيه البعيد، ربما أفعل ذلك كي أسكتها وأرشوها كي لا تطفو على سطح حياتي، أريد من خلال هذه الكتابة أن أستعيد الماضي وأرجع طفلاً يركض على حافة نهر الرقاد أو اليرموك، أشتم رائحة النعنع والزعتر البري، وأجوب في تلك الوديان، أكحل قلبي بمنظر أشجار الصفصاف والطرفا والعليق، وأدخل بين أجمات القصب أو ألعب مع مياه النهر، كما أعواد القصب.
أحلم من خلال الكتابة أن أرجع وأرى تلك العيون المكحولة وهي تنظر إلي من الجهة المقابلة وتلك التي فلت ضفائرها وحلفت أنها لم تجر ميل حمرتها إلا من أجلي، ولعلي في الكتابة أعمر تلك البيوت الطينية القديمة المسكونة بالمحبة والتي تفوح منها رائحة الدفء، وأرى البلابل وعصافير الدوري والحسون وأم عوين وأبو الحن، تصلي الفجر وتمجد أعراس الصباحات وبهجتها.
ويقول الحفري: أرد على السؤال بتلك الطريقة لأقول أنني أدعج الصوت بصمت فوق الورق وأستعيد توازني وعبق السوالف، أتعمد وأنا أقلب أوراق التقاويم، لأعيش الحلم وأنهض معه مشرقاً، وكأنني أنبعث مرة أخرى مع كلّ عمل جديد أكتبه، وأوقد النار التي ينبغي أن تبقى مشتعلة ولا تترمد في داخلي، وجدوى الكتابة عندي لا يقاس بالمال، وإنما بأشياء أخرى لا يشعر بجمراتها وهي تنسى ببطء في داخله سوى المبدع.
قيمة مضافة
تقول الأديبة سوسن رضوان:
لماذا نكتب، سؤال يواجهنا ونجده يتحرك في دواخلنا باحثاً عن إجابة، فالإنسان بشكل عام يريد أن يفرغ ما بداخل رأسه من أفكار تتكاثف وقد لا يجد الشخص المتلقي للحديث معه بشأنها، فيجد الورق خير جليس يتحدث أمامه بحرية إلى أن تصبح الكتابة هي المعين الذي يسكب فيه أفكاره كلما تزاحمت.
في البداية تكون الكتابة لأجل الكاتب ذاته، وبعد أن يستعذب الأمر يبدأ بالتفتيش عمن يصقل موهبته التي اكتشفها من خلال القراءة والبحث، لأنه في هذه المرحلة يكون قد توجه للقارىء الذي بدأ يعنيه حكمه على ما يكتب، ويكون بالمقابل قد حدد مسار كتاباته ونوعها والهدف منها، هنا تبدأ مرحلة الإبداع وتطور المهارات من خلال استخدام الأدوات التي تميز كتابته وتجعله مبدعاً في مجاله، كأن يختار المسرح عنواناً لأبحاثه أو الشعر أو الرواية، وما إلى ذلك من فنون وآداب قد يبدع من خلالها.
إن الأديب يكتب ليس لمجرد الكتابة فقط، بل لأنه يمتلك الموهبة فيكون قادراً من خلالها على الإبداع وتقديم الأفضل للآخر، ليكون ما يقدمه أثراً من بعده يضاف إلى كلّ قيم.
إن الأديب حين يبدع فهو يضيف قيمة إلى كلّ المحاسن في الكون التي علينا المحافظة عليها لتكون شاهدة فكر وزمان.
نافذة للروح
والكتابة عند الشاعرة إيمان موصللي هي نافذة للروح، فعن طريق تفعيل قوتنا الكامنة عبر اللغة واستشعار الطاقة الإيجابية وممارستها من خلال نص أو قصيدة أو رواية، فإننا نخرج من ظلام الصمت إلى الضوء للتعبير عن موقف تجاه ما حولنا، ولكن بأسلوب أدبي سلس وغير مباشر.
وأنا ككاتبة أو شاعرة، فالإبداع بالنسبة لي هو الوصول إلى من حولي من القراء في أي مكان، والقرب من أحاسيسهم واهتمامهم، وهذا بحدّ ذاته هدف سام ونبيل.
الكتابة هي فعل حياة بالنسبة لي والإبداع هو الأثر الذي لا يغادر ذاكرة البشر مهما مر الزمن، فليكن لنا أثر جميل في ضمير الإنسانية.
رسول الفكر والعاطفة
وترى الأديبة أماني المانع أنها تكتب لأن الكتابة هي صوتها والكتابة رسول الفكر والعواطف، تقول:
لأننا اخترنا الكلمة رسالة أو ربما هي اختارتنا، لأن الصفحات والمساحات البيضاء تعاتبنا، تشتاقنا ونشتاقها، نودعها أسرارنا وأفكارنا، نميل عليها، نلجأ لها، فتصبح هذه المساحات البيضاء الامتداد أو التمرد أو الواقع الذي نختاره لأنفسنا.
قد لا تشفي الكلمة في بعض الأحيان، لكنها طريقة للتنفيس، وقد لا تحل المشكلات فتخفف من الضغط، للكلمة دورها وتأثيرها وقد ركزت على أهميتها كلّ الكتب السماوية، وأعتقد أننا ككتاب لا ننتظر حين نكتب الإجابة على سؤال، هل هناك جدوى من الكتابة؟ وذلك لأننا ببساطة نقف في مواجهة دائمة مع العدم والصمت والفراغ، ونسعى للخلود، ولكن بشكل عام تعيش الكتابة في العالم العربي اليوم أزمة اللاجدوى.

العدد 1128 – 17-1-2023

آخر الأخبار
تركيا تشارك في إخماد حرائق ريف اللاذقية بطائرات وآليات   حفريات خطرة في مداخل سوق هال طفس  عون ينفي عبور مجموعات مسلّحة من سوريا ويؤكد التنسيق مع دمشق  طلاب التاسع يخوضون امتحان اللغة الفرنسية دون تعقيد أو غموض  إدلب على خارطة السياحة مجدداً.. تاريخ عريق وطبيعة تأسر الأنظار سلل غذائية للأسر العائدة والأكثر حاجة في حلب  سوريا تفتح أبوابها للاستثمار.. انطلاقة اقتصادية جديدة بدفع عربي ودولي  قوات الأمن والدفاع المدني بوجٍه نيران الغابات في قسطل معاف  قضية دولية تلاحق المخلوع بشار الأسد.. النيابة الفرنسية تطالب بتثبيت مذكرة توقيفه  بعد حسم خيارها نحو تعزيز دوره ... هل سيشهد الإنتاج المحلي ثورة حقيقية ..؟  صرف الرواتب الصيفية شهرياً وزيادات مالية تشمل المعلمين في حلب  استجابة لما نشرته"الثورة "  كهرباء سلمية تزور الرهجان  نهج استباقي.. اتجاه كلي نحو  الإنتاج وابتعاد كلي عن الاقتراض الخارجي  الهوية البصرية الجديدة لسوريا .. رمز للانطلاق نحو مستقبل جديد؟ تفعيل مستشفى الأورام في حلب بالتعاون مع تركيا المؤتمر الطبي الدولي لـ"سامز" ينطلق في دمشق غصم تطلق حملة نظافة عامة مبادرة أهلية لحفر بئر لمياه الشرب في معرية بدرعا السيطرة  على حريق ضخم في شارع ابن الرشد بحماة الجفاف يخرج نصف حقول القمح الإكثارية بدرعا من الإنتاج