الملحق الثقافي- علم عبد اللطيف:
دخلت الإنسانية عصراً جديداَ ومختلفاً بدخولها مرحلة الكتابة.
بدا التوثيق في البداية أمراً مهماً للإنسان بعد تشعب علاقاته ومهامه..توثيق المعاملات والعلاقات..ثم توثيق التفكير..ومن هنا ابتدأت الآداب والفنون..ولم تقف حتى اللحظة.
الكتابة غيّرت مفاهيم التعاطي مع القول.. فقد شهدت مرحلة الشفاهية.. رواية الأحاديث والشعر والخطب..رواة يحفظون وينقلون.. وكثيراً ما أضيف لروايات الرواة بعدهم.. بسبب غياب التوثيق.. ليظهر في مراحل متأخرة من يشكك بكل موروث الشعر والخطابة.. أو جزء كبير منه.. حتى التاريخ.. ابتدأت الكتابة بتوثيقه قي عصر الكتابة المتأخر.. فكان تأريخ التاريخ. وهو عنوان كتاب مهم للدكتور وجيه كوثراني.. مسألة تتصل بطبيعة الحياة التي وسمتها الكتابة بميسمها.
الكتابة إذن..كانت حاجة إنسانية في مراحل تطور عقل الانسان وتفكيره.. وقامت من جهتها بتطوير العقل والفكر بشكل مطّرد ومتسارع.. فكانت العلاقة في جدلها عطاءً واستثمار عطاء بشكل مستمر..كلما أنبَتَ الزمانُ قناةً..ركّب المرء للقناة سنانا..المتنبي.
صارت الكتابة بعد عصور من استثمارها..حرفة ومهنة.. حرفة لجهة تطوير أساليب الكتابة وأدواتها..ومهنة للعيش في كثير من الحالات والأحيان.. هنا تحديداً تمت مأسسة الكتابة كمعطى إنساني أصبح يعيل نفسه.. يأخذ ويعطي.. وفي كل الأحوال. تسعى الكتابة حتى في غائيتها واستقلالها..إلى تجاوز ذاتها دوماً.. فالكتابة لم تعد إعمالاً للغة أو الحروف فقط..ولا للأرقام والأعداد..بل أصبحت لغة تسعى لتجاوز طوباها وتقليدها..فنشأ الترميز والاختزال.. وتمت مزاوجة الحروف بالأرقام لإنتاج لغة الصحافة والتكنولوجيا. ولا يزال قطار الكتابة ماضٍ في سيره دون أن يتوقف في محطة أخيرة.
الآن.. كيف تبدو الكتابة لدى الكتاب؟..وماذا تعني لهم.. هو تساؤل وسؤال.. كلٌّ يجيب عليه بطريقته وإن اختلفت الإجابات. لكن البعد الحقيقي الذي يجمع كل الكتاب..هو الحاجة إلى الكتابة.. حاجة تفسر ذاتها..ولا تولي كبير اهتماماً لتعليل أصحابها. وتكاد تكون فعلاً انعكاسياً لا إرادياً..كالتنفس تماماً.. وحقيقة..إن مفاعيل الكتابة جعلت من التراجع أو الانعكاس في عالم الكتابة. أمرًا مستحيلاً..طالما أن الإنسان العاقل..المدرك لما يقوم به.. هو المتحكم الأول والأخير بشأنها.. وليست الطبيعة او الغريزة.. وإذن..تبدو الكتابة شأناً لازماً أكثر منه تاريخياً.. لا يخضع لمفهوم المراحل وانقضائها وتتاليها وتجددها..او إقصاء بعضها للبعض الآخر.. لأن الكتابة لم تعد زمنية البنية والتشكل.. على مستويات التاثير والمفاهيم.. طالما هي فعل مستمر ماض في حركيته.. استمرار الحياة ذاتها.
الكتّاب يعرفون أنهم يفكّرون بالكتابة.. وهو تفكير مختلف تماماً عن تفكير التداعي الداخلي أو حتى الخطاب الشفهي.. فللكتابة طريقتها في إعمال الفكر والتفكير.. عندما أكتب.. لا أعرف إلى أين ستوصلني كتابتي.. ولا أعرف كيف استحضرت بآليتها أفكاراً لدي لم تكن طافيةّ في عقلي وذاكرتي.
لماذا أكتب؟!
(تيري تيمبيست وليمز)، كاتبة الطبيعة اللطيفة، 2001
..أكتب لكي أتصالح مع الأشياء التي لا أستطيع السيطرة عليها.
أكتب لكي أصنع نسيجاً في عالم يظهر غالباً بالأسود والأبيض.
أكتب لأكتشف، أكتب لأكشف
أكتب لكي أتخيل الأشياء على نحو مختلف، وبتخيل الأشياء بشكل مختلف…
ربما يمكن للعالم أن يتغير.
نعم..هذا العنصر الأخير..ربما كان الأهم..والأسمى في غايات الكتابة.. أن تغيّر الكتابةُ العالم.
نعم..الكتابة أصبحت ثقافة جديدة ومستجدة..وذاكرة مختلفة..وعالماً يخلّق نفسه في كل لحظة.
العدد 1128 – 17-1-2023