الثورة – حسين صقر
في محاكم الأحوال الشخصية ترى الأهوال، تتأثر يخترقك الحزن، تشعر وكأنك في عالم فقد الرحمة، ليس بسبب تلك المحاكم طبعاً، إنما بسبب ما يتناهى لسمعك من هنا أو هناك بين جدرانها وفي ممراتها من مآس وآلام عن فتيات إما غرر بهن، أو ذهبن لأقدارهن بمحض إرادتهن، بين تلك الجدران تتعدد الرؤى وتتشابه القضايا في شكلها العام، لكن تختلف من حيث الحكاية أو القصة.
في تلك المحاكم وأمام القضاة، وفي ملفات المحامين ترى العجائب، بنات وقاصرات بعمر الورود يتجولن بين مكاتب القضاة، هذه تستلم النفقة وتلك تحمل ملف أوراق تطالب بتلك النفقة، وأخرى تطلب ضم صغير أو ترجو من غرر بها يوماً أن يُنسب ذلك الصغير أو تلك الصغيرة له، والتي لاذنب لها سوى أنها جاءت إلى هذه الحياة نتيجة رغبة أو إرضاء لهوى أو لظروف أخرى.
وترى أيضاً أن هناك فتاة تطالب بحبس طليقها لعدم دفعه المستحقات التي يجب عليه دفعها، وحسب ماورد في عقد الزواج العرفي الذي وقّعه اثنان من الطريق، لا يعرف أحدهما الآخر.
ترى كل بنت خلفها أمها تركض معها للإيقاع بمن ضحك يوماً على ابنتها، وفي ذات الوقت ضحكت ابنتها على نفسها.
في صالة الانتظار هناك عدد كبير من النساء أضعاف عدد الرجال، وجوه تحمل ملامحها الكثير من الكيد والحقد
والإرهاق والتعب والأسى، والتوعد برد الصاع صاعين.
كما ترى أطفالاً وأخوة سيفترقون ويتركون لرحمة الأيام، وقد ينتهون عند بعض الأسر، أو في دور رعاية وكفالة الأيتام.
وفي زاوية أخرى ترى فتاة تروي قصة ابتزازها من “عشيقها” المراهق بعد أن ورطت نفسها، وأخذ يبتزها في الصور ومقاطع الفيديو التي بقيت في حوزته كي لاتطالبه بالبقاء معه، أو الاعتراف به والجنين الذي تحمله في أحشائها، لتقف أمام القاضي ولا تعرف ماذا تقول، في الوقت الذي تلاحقها فيها نظرات والدتها المكسورة، أو أخيها أو ربما أبيها المجروح الكرامة، والذي شعر بالذل نتيجة تصرف ابنته، وذلك الشاب دون أي حياء ولا استحياء ولا خجل يجادل ذويها بالأمر وكأنها هي من استدرجته أو نالت منه أو أفقدته شيئاً من رجولته وكرامته، متجاهلاً أنه هو من آذاها نفسياً ومعنوياً وجسدياً.
وأخرى تصرخ باكية لأن قضيتها أُجّلت أو ربما سقطت بالتقادم، لأنها لا تملك تكاليف تلك القضية والوكالة وربما إيجار الطريق لحضور جلسة المحاكمة.
وفي نهاية أحد الممرات تتكور فتاة على ذاتها وهي تحمل صغيرها الذي لم يتجاوز عمره العام يصرخ من البرد والجوع، بينما من ارتكب الجرم بحق والدته ينتقل من حضن لآخر دون عقوبة قاسية يجب أن تنفذ بحقه كي يكون عبرة لغيره، في حال أراد أحد الإقدام على فعل كهذا.
لم تكن تعلم تلك الفتاة أن المحكمة هي المكان الذي ينتهي بها منكسرة، أو ربما كانت تعلم وانتهت في لحظة ضعف إلى ذلك الأمر أو القدر الذي رسمته خطواتها ..خطواتها فقط، وتطلعاتها التي لم تكن في مكانها، وربما أرادت أن تصعد السلم دفعة واحدة، ولم تك تعلم أن مصيراً مجهولاً ينتظر طفلاً وضعته بإرادتها أو رغماً عنها، وحتى لو صدر حكماً قضائياً على من يدعى والد ذلك الجنين، فالأمر لم يعد كذلك.
هذه القصص وغيرها تعيدنا إلى ضرورة الترابط الأسري، تعيدنا إلى ضرورة التركيز على القيم والمبادئ التي تغنى بها من سبقنا، إلى بعض العادات وليس كلها، والتي تعيد الشاب أو الفتاة لعائلته كي يساعدوه بإصلاح الأخطاء التي تحصل معه، ولكي لا يصلح هؤلاء الخطأ بأكبر منه، لأن معظم مشكلاتنا الاجتماعية التي نعاني منها، بسبب التكتم على من هم أكبر منا وأوعى منا وأخبر منا، فهؤلاء لديهم التجارب التي يستفيدون ويفيدون منها، وبالتأكيد إن اللجوء لهم من أجل حل مشكلاتهم هو الحل الأمثل لعدم المضي بالطريق المظلم والدرب الشائك.