الملحق الثقافي- شهناز صبحي فاكوش:
تسابق سابحات خيالِها، سابحات الجياد في مضمار أشبه بحلبة التفاضل؛ تدور بين ثنايا دماغها إلى اللانهاية.. تطوي فيافي روحها الملتهبة بنار وجدِ زفرات المساكين، الذين سرقت البسمة من شفاههم، تاهت آهاتها في حنايا زمانها الذي تناول أكبر جرعة مخدرة لينام تحت مبضع الجراح..
مثل سنا النار التهمت جذع شجرة متصدع، التمع ضوؤها بين شقوقه، تاركاً إياها جمر فحم.. تتلظى الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن. كل مرة تأتي فيها الريح حاملة الموت، تذكرنا بأنها القابضة على الأرواح البريئة، تحملها كما تحمل ورق الشجر الأصفر الذي يلتجئ تحت نوافذ الثكالى..
خريف الموت ينال كل مرة من الأبرياء كاوياً قلوب الأمهات.. صارت جرداء كالأشجار يجردها أيلول من ثوبها الساتر لأغصانها الغضة.. أصبحت قلوبهن غريبة عن الصدور التي تحتويها.. تنسج من آهاتها لوحات ألم تلازمها إلى مستقرها الأخير. صور من الحرب ناشبة الأظفار..
حتى لو أخذتها الدنيا في زحمتها لتغيّب تفكيرها عمن تحب.. للحظات. كنحلة سكرى ارتشفت رحيقاً من ثمرة ناضجةٍ حتى التخمر.. فتجلدها النحلات الحارسات المدافعات عن الخلية.. هي تجلد عقلها وقلبها لأنها سهت قليلاً عن التفكير في من فقدت، وتنحَّت ذكراه عن فكرها لثوانٍ..
نبحث عن أحبابنا، البيت والحي يفتقدهم، نتمنى لقاءهم، دون لقاء. غابت حوائج الدنيا عن تفكيرنا روَّضت نفوسنا، ابتعدت عن نعت الغير بالجهالة.. فهم عباقرة زمانهم.. اسودت أيامنا كعنقود عنب تاهت عنه يد القاطفين.. هل ظلوا صغاراً كما غادرونا، بينا نحن نشيخ في زمن العبثية..
ويبقى قلب الأم كواحة الفاكهة لكل ولد نكهته فيها.. وقبل رائحة الخبز التي تجمعهم يأتي طيفهم من بعيد، نشعر بهم قبل أن يقتربوا.. وتظل الأم إناء الورد الذي يحتضنهم، لكل وردة عطرها ولونها المختلف وهي تزهو بالجميع.. هدية الله للأمومة التي تطفح متباهية بسجاياهم بين الناس..
بعض الولد يتلبسه العقوق والجحود، كمن عق جاحداً بوطنه. يبتعد عن قلبها حد التصدع يندم لات لا ينفع الندم. البعض أزراره قطعت ماتت قبل البلوغ.. ابتعَدوا وعقارب الساعة توقفت قبل أن تكمل نبضها. ترى يعود طيفهم بكرة أو أصيلا، والأم ما زالت واقفة على عتبة الباب تنتظر.
تسائل عنهم نسمات الصبح ورائحة المطر، والندى يتصبب فوقها.. تناجي طيور الدار التي غاب معهم صوتها الرخيم، ونهدات صدرها تشق جدار الصمت. يذوب قلب الأم المنصهر بنار الغياب والبعاد حيث اللا عودة.. ومحطة الانتظار تغص بها على رصيفها، علَّ القطار يمر بها لتستقله.
حتى لو كان وقوفاً.. إلى حيث هم.. فالشوق قاتل والفراق مرّ والوقوف على الناصية وحشته أمر.. ذاكرتها تزدحم فيها ليالٍ وأماسٍ جميلة، بل وصباحات كانت مفعمة بالفرح والسرور، مع صدح صوت فيروز ورائحة القهوة.. وضحكات من القلوب الصغيرة تملأ أرجاء البيت..
أحرق الموت جميع أوراقها، مزقهم الفراق بوحشية.. كان الفرح يملأ دنياهم عابثاً بكل شيء.. حتى أوراق الشجر الصفراء في باحة الدار.. والمظلات فوق رؤوسهم تتراقص، تقيهم زخات المطر.. لم يخطر لها مرة أنهم سيغادرون مع أوراق الخريف لتحتضنهم الأرض كما المطر..
لولا كلام الله الذي يسكن القلب وبذكره تطمئن القلوب.. لهلعت الأم في أزقة المدينة، وبين ثغورها.. لتودَعَ في مصحّ أقل ما يقال عنه نفسي، تناجي عبر نوافذه طيور السماء ترنم آهات احتراق قلبها تحملَّه رسائل وجعها، كما يحمل الحمام الزاجل رسائل الأهل لداخل لأرض المحتلة..
دموعها كانت تنسكب مع شبَّابة الراعي، تهامس نغماتها لحن الأسى في خلود الغياب.. والحزن في صمته الرهيب يخترق تفاصيلها.. تسائل نفسها هل يمكن أن تعود البهجة والأفراح لتغمر دُورَ الثكالى ببسمة تجاور الغصة.. العمر الذي مضى في وداع الكثير من الغالين، يدعو لمن بقي منهم أطال الله أعمارهم.. فقد تسلوْ قلوب الأمهات بأفراحهم وبسماتهم.
العدد 1131 – 7-2-2023