عباس الجبوري- عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب العراقي
كانت سيارات الوفد العربي تمر بشوارع دمشق وكنت أرقب تلويحات الناس الطيبين على جانبي الطريق ومرات عديدة كنت أنزل النافذة قليلاً لأسمع كلمات الترحيب والدعاء فيغمرني الحياء.. وتتحرك شفتاي بحرارة التحية وأرمق السماء.
كانت قاطرة العراق تسحب قطار العرب الطويل على سكة الأمل القادم إلى الشام ليكفكف دمعة طفل.. وظفيرة طفلة تطايرت بهزة الزلزال إلى المجهول من الأرض والسحيق من الوديان وكانت وكنا.
استقبلتنا الشام بريفها وغوطتها وتمايلت أفنانها والرياحين وقام الجواهري من جنة السيدة زينب ليعيد لنا (فخراً دمشقُ تقاسمنا مراهقةً.. واليومُ نقتسمُ الآلامَ والرهقا) فيمازحه بعض الأصحاب من أين أتيت؟ فيجيبهم بشموخه: من العراقِ من الأرضِ التي إئتلفتْ والشام ألفاً فما ملاّ ولا افترقنا.. فزادت من سرعتها السيارات إلى جبل قاسيون القريب من الشمس والمكلل ببقايا ثلج الكوانين.
كان الرئيس الأسد يحيطه الفرح من كل صوب والابتسامة لا تفارق وجهه وتلمع عيناه وهو يدقق في وجوه العرب ويده التي تصافح تشتعل من الشوق وسخونته فيبرّدها بكلماتٍ تتسللُ من أصابعه التي تتكلم سحراً يدفّئ القادمين فننسى لهجاتنا المحلية ونتكلم بلسانٍ شاميٍ مبين كما ينسى المطر اسمه حين يختلط بنهر الفرات.
لم يسأل أحد عن الوقت ولم ينظر أحد إلى ساعته يتحسس الزمن ولكنَّ الملفت ونحن المذهولين من الفرح انتظم حديثنا المرتجل كـ(صف طابوق) في قوالب النثر والشعر والوطنية التي عطرت المكان فتراخت ساعاته وتمددت دقائقه والرئيس يتنقل بحديثه من العراق إلى مصر ومن لبنان إلى عمان ومن فلسطين إلى الإمارات ومن الأردن إلى ليبيا بأوتارٍ رشيقة وبألحان مرهفة.
توقفت كل البروتوكولات والأعراف الدبلوماسية وقوانين المراسيم وتلاشت الامتيازات في قصر الشعب وبدا المشهد مجموعة من الطلاب العرب يتناقشون في قضايا الوطن والناس في جامعة دمشق بلا شروط ولا إحراج ولا حدود.. تغرقهم وجوه الدمشقيين محبة وتفاؤل وقهوة و(زهورات) وقطرات ماءٍ من ثنايا جبال القلمون الباردة.
ودّعنا الرئيس وكلماته السخية تطفح بتعليق خاص وعام لكل ضيف عن (أحوال مصر وسلامة لبنان) وصمود المقدسيين وشكر العراقيين وعن وعن ولم أنس ولكني نسيت ليس من النسيان ولكن من تلفّت القلب وهو يودع جبلاً وياسميناً وحبة البركة.
إلى مجلس الشعب قال السائق، يعني إلى شارع وسوق الصالحية الذي دخلناه وسط موجتين من البشر على الرصيفين وقد رفعت كل هواتفها الذكية لتصور بيد وتلوح بيد أخرى ويهتف من يهتف في موقف مهيب من الرهبة في حضرة حبٍ مقدس وبهجة عرسٍ ريفي منقوع بماء الورد لذة للشاربين.
بناية مجلس الشعب تقع بين شارع الحمراء التجاري للملابس النسائية وشارع الصالحية للملابس الرجالية وهي منطقة مكتظة بالحركة والناس وفي داخل المبنى علقت صور لشهداء قاوموا الاحتلال الفرنسي وصور سياسيين عرب وسقوف مزخرفة بنقوش دمشقية (على أصولها) والتقينا بنواب سورية المنشغلين بانتظار العرب كما درسوا بالتاريخ (لابد أن يعود العرب واحتدمت الهتافات من حناجر المخلصين الذين يحلمون بالوطن كل ليلة ولم يحلموا بشقة في المنفى ولا يتمنوا موائد المترفين من سياسي العالم الموغل بالقسوة والافتراء.. كانت أمنيتهم نافذة هواء لأطفال عادوا من مدارسهم ليناموا على قصص جدتهم التي أرهقها حصار الرغيف.
آن أن أتحدث عن العراق (القاطرة) التي سحبت القطار بكبرياء النخيل والذي تحدث فأزهرت لصوته ربوع الشام ووعد فوفى بوعده لإخوانه وبادر وسيستمر بقيادية الموقف ولو بكلفة غالية لأن الإنسانية خلقت من طينة بابل وماء دجلة ولأن البلاغة كوفية ولأن الطيبة بصرية ولأن لصحارى الأنبار مضارب للسيف والضيف يعرفها (الخيل والليل) والمتنبي الذي (تمرغل) في رمالها تاركاً كنوز كافور قبل أن يغفو على رمال واسط إلى الأبد.