الثورة – بتول أحمد:
بدأت القصة عند عتبة فصل دراسي في إحدى مدارس حلب، وقف أحمد “عشر سنوات” يهمس لجاره كلمات تركية، بينما زملاؤه يحدقون إليه بنظرات استغراب.. “هل هذا طفل أجنبي؟” سأل أحدهم.
تلك المشهدية اليومية تُختزل فيها مأساة جيل من الأطفال السوريين العائدين من تركيا، حاملين لغتين في عقولهم.. لكن إحداهما تدفعهم إلى صمتٍ مرير في وطنهم.
من منزلهم في غازي عنتاب إلى حلب، رحلة العودة المركبة، عادت أسرة أحمد بعد سبع سنوات من اللجوء، حاملةً حقائب مليئة بالذكريات التركية.
في البداية بدا الأمر كأنه حلم تحقق، لكن سرعان ما تحول إلى كابوس عندما اكتشف الأهل أن أطفالهم الذين ولدوا أو ترعرعوا في تركيا، أصبحوا يتحدثون العربية بلكنة مكسورة، بينما اللغة التركية تتدفق منهم بطلاقة.
في اليوم الأول للمدرسة، عاد ابني باكياً لأنه لم يفهم سؤال المعلم”، تقول أم أحمد، مشيرة إلى دفتر ملاحظاته الفارغ.
جدار اللغة
وفي هذا السياق، يواجه هؤلاء الأطفال تحدياً مزدوجاً، فمن جهة يجدون أنفسهم غرباء في فصول تدرس بالعربية، ومن جهة أخرى يعانون نظرات الدهشة والسخرية أحياناً.
تقول المعلمة سمر خليل: “عندما أطلب من أحمد قراءة نص، يصمت وكأنه يترجم في رأسه أولاً الأمر الذي يجعله متأخراً عن زملائه”.
ووفقاً لتقرير ميداني أعدته “جمعية دعم العائدين”، فإن 75 بالمئة من الأطفال العائدين من تركيا يعانون صعوبات لغوية، بينما يعاني أربعون بالمئة منهم عزلة اجتماعية في المدارس.
في هذا الصدد، يحذر الدكتور خالد الحمصي أستاذ علم الاجتماع التربوي، من اختزال المشكلة في الجانب الأكاديمي، لطالما اللغة ليست مجرد أداة تواصل، بل هي ناقل للهوية والعواطف.
هؤلاء الأطفال يعيشون صراعاً وجودياً، فتركيا أصبحت جزءاً منهم، في حين أن مجتمعهم الأصلي يرفض لغتهم الجديدة”.
ويضيف: النتائج الخطيرة تظهر في المؤشرات النفسية من حيث تدني الثقة بالنفس، الخوف من التحدث، وحتى كراهية الذات عند بعض المراهقين”.
بصيص أمل
على الرغم من ذلك، بدأت مبادرات فردية تطفو على السطح، في مدرسة “النهضة” أطلقت المعلمة سمر خليل “برنامج الأصدقاء اللغويين”، إذ يُقترَن كل طفل عائد بزميله السوري في حصص نقاشية، من ناحية أخرى تجرب منظمة “بسمة أمل” فصولاً مكثفة تستخدم منهج “العربية للناطقين بغيرها”.
كما يرى الدكتور الحمصي أن الحل يحتاج لاستراتيجية وطنية تعتمد على تطوير مناهج تعليمية خاصة تركز على سد الفجوة اللغوية، وتدريب المعلمين على التعامل مع التنوع اللغوي، بالإضافة إلى إطلاق حملات توعية ضد “التنمر اللغوي”.
فيما يُغلق أحمد دفتره المدرسي كل يوم بأحلام تدور بالتركية، ثم يستيقظ على واقع يتطلب منه العربية، تبرز تساؤلات مصيرية.. هل يمكن تحويل هذه المعاناة إلى فرصة لبناء جيل ثنائي اللغة؟
الإجابة قد تكون في تجربة مدرسة حلبية صغيرة، إذ بدأ الأطفال العائدون يعلمون زملاءهم التركية، في مقابل تحسين عربيتهم، ربما تكون هذه المعادلة البسيطة هي مفتاح تحويل صراع اللغات إلى جسر ثقافي.. فهل نستمع لصوت الأطفال قبل أن يخبو.. وتصبح الحالة فرصة لغد أفضل؟.