الملحق الثقافي- أحمد بوبس:
حين أقول أستاذي يوسف المحمود، فإني أقصد ذلك بكل ما تحمله العبارة من معنى، فحين ولجت جريدة الثورة صحفياً في أواخر السبعينيات من القرن الماضي (القرن العشرين)، جمعتني به غرفة واحدة في الطابق الثاني من المبنى القديم لجريدة الثورة خلف القصر العدلي القديم قرب سوق الحميدية.. ومنذ الأيام الأولى أتذكر تماماً كيف استقبلني بكل ود، أحسست برعايته الأبوية لي، فكان يقرأ كل مادة صحفية أكتبها، فإما أن يثني عليها، أو يبدي بعض الملاحظات المفيدة لي، ومعظمها كانت ملاحظات لغوية.. ولم يكن يُبدي مثل تلك الملاحظات للزملاء الآخرين، بل لي فقط، لأنه أحبني وآمن بموهبتي في الكتابة نثراً كانت أم شعراً.
وقبل أن ألج صحيفة الثورة، تتلمذت على كتاباته فيها وبشكل خاص زاويته اليومية في الصفحة الأخيرة من الثورة (إلى من يهمه الأمر) التي كانت أكثر الزوايا الصحفية متابعة في الصحف السورية، فبسببها أصبحت من قراء (الثورة)، وكنت أتلقفها صباح كل يوم وأقرؤها لأستمتع بأسلوبه الساخر، وكان يستنبط موضوعاتها من القضايا الحياتية للناس، ويعالجها بأسلوب ساخر شيق وجميل، وكان يعتبر الزاوية كأحد أولاده.. واستمرت حتى جاء أحد المديرين العامين للجريدة – سامحه الله – فألغى الزاوية من الصفحة الأخيرة، فكانت صدمة كبيرة للأستاذ يوسف، ويومها تحدثنا مع المدير العام ليبقيها له، لأنها روحه التي يعيش بها، ولأنها أحد أسباب رواج جريدة الثورة ومبيعاتها، لكنه رفض.. وبالفعل شكل إلغاء الزاوية صدمة كبيرة للأستاذ يوسف، فأصبح مقلاً في الكتابة حتى تقاعد.
وإضافة إلى زاويته اليومية كان يوسف المحمود يترجم الدراسات والمقالات السياسية والأدبية عن الصحف العالمية مثل (نيويورك تايمز) و(هيرالد تريبيون) و(نيوزويك) عن اللغة الإنكليزية التي درسها بالمراسلة ونال إجازتها الجامعية من جامعة القاهرة، بعد أن نال إجازة اللغة العربية من جامعة دمشق.
وإضافة إلى الكتابة الصحفية، كان يوسف المحمود أديباً مبدعاً في الكتابة القصصية.. ولا أزال أتذكر بفرح كيف أهداني مجموعته القصصية (سلامات أيها السعداء)، فانكببت على قراءتها بمتعة كبيرة.. فهذه المجموعة القصصية شكلت فتحاً في الأدب القصصي الساخر، بأسلوبه الجميل الذي يجمع بين الواقع والخيال، وله غير (سلامات أيها السعداء) مجموعتان قصصيتان، هما (المفسدون في الأرض) و(حارة النسوان).
إلا أن الإبداع الأدبي الأهم ليوسف المحمود كان رواية (مفترق المطر) التي تشكل إضافة كبيرة وقيمة للرواية العربية.. وتنتمي الرواية إلى الواقعية بامتياز.. فأحداثها حقيقية، حدثت في قريته (كفر شاعر) عندما كان طفلاً، وكان أحد شهودها بل أحد شخوصها.. وتبدأ الرواية عندما خرج طفلاً يودع أخته (خاتون)، عندما حملها موكب العرس، لتنتقل إلى قرية أخرى، لتعيش في كنف زوجها.. ولتتوالى بعد ذلك أحداث الرواية متناولة الحياة اليومية للبيت الذي نشأ فيه.. وإلى جانب قيمتها الأدبية، تضمنت هذه الرواية توثيقاً مهماً لعادات وتقاليد الناس في قريته والمنطقة المحيطة بها (منطقة دريكيش) وحتى لهجة المنطقة.
هذه بعض من جوانب حياة يوسف المحمود الصحفي والأديب والإنسان الذي قست عليه الحياة وعاركته، لكنه كان أصلب منها. وعندما كنت أصافحه كنت ألمس تلك القساوة من خشونة يديه اللتين كانتا وسيلة كفاحه في الحياة.
فقد عاش معاناة الفقر وقسوة الحياة منذ ولادته في قرية كفر شاعر التابعة لمحافظة طرطوس عام 1932.. لكنه استطاع بتصميمه وعصاميته أن يتغلب على قسوة الحياة، فنال الشهادتين الإعدادية والثانوية بدراسة حرة، وانتسب إلى كلية الآداب بجامعة دمشق وحصل منها على إجازة اللغة العربية.. وبعد تخرجه انخرط في سلك التدريس مدرساً للغة العربية، وأعير إلى الجزائر ما بين عامي (1970 و 1974)، عاد بعدها إلى دمشق.. لينتقل من التدريس إلى العمل الصحفي في جريدة الثورة.
وخلال دراسته الجامعية وعمله في التدريس، كتب في العديد من الصحف والمجلات، فكتب في مجلة (الصباح) الدمشقية لعبد الغني العطري وراسل مجلة العرفان اللبنانية التي كانت تصدر في مدينة صيدا، كما كتب في جريدة (ألف باء) الدمشقية.
وبداياته الأدبية كانت مع الشعر، وبشكل خاص الشعر الساخر.. الذي كتب منه نحو خمسين قصيدة، نشرها في مجلة الدنيا لعبد الغني العطري، وجمعها بعد ذلك في مخطوط حمل عنوان (تيتي تيتي) المأخوذ من المثل الشعبي الذي يقول (تيتي تيتي متل ما رحتي متل ما جيتي)، وظل هذا المخطوط مخطوطاً لم تتح له فرصة الطباعة.
أما على الصعيد الإنساني، فقد كان يوسف المحمود إنساناً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ أخلاقية ونفسية.. كان مثال الدماثة والكياسة، كان أباً روحياً لنا في الجريدة.. لم نره يوماً غاضباً.. كان الأدب خلقه وسلوكه في الحياة، دون أن ننسى ظرفه وعباراته الطريفة.. ومن طرائفه معي، أنني عندما بدأت عملي في الجريدة، قدم لي سيجارة فاعتذرت عن قبولها لأنني لا أدخن، فقال لي بالعامية (ما بتدخن وجايي تعمل صحفي).
وأفجع من فقدنا من وجدنا
قـبيل الفقـد مفقـود المثال
ستبقى حياً بيننا.. تحييك فينا ذكريات لن ننساها، وقصصك ورواياتك وزاويتك الجميلة (إلى من يهمه الأمر).. سيبقى يذكّرنا فيك كل شيء، من السيجارة إلى الحقيبة التي كنت تتأبطها، إلى ركنك في مكتبنا المشترك في البناء القديم لجريدة الثورة، إلى زياراتي لك في منزلك بعد تقاعدك في أقاصي مساكن برزة.. ذكريات تزيد من ألمي على فراقك أيها الغالي.. لكني أجدها الآن ذكريات حلوة، كم أحن إليها حين كنت أجلس قبالتك أستمع لك وأستمتع بحديثك وحكاياتك التي كانت بالنسبة لي دروساً في الأدب والحياة.
العدد 1135 – 7-3-2023