الملحق الثقافي- عبد الكريم البليخ:
إنَّ عدم تشجيع الأهل على استخدام اللغة الفصحى، فلغة السواد لمجموعة من الناس ظلت العامية هي الطاغية بينما الفصحى اقتصرت على الخاصة، أي لغة الطبقة المتعلمة. وتعتبر اللغة الرسمية المعترف بها في إطار مؤسسات السلطة وفي المحافل الدولية والإعلامية والتربوية والعلمية والأدبية. وهناك كثير من متحدثي اللغة العامية لا يقوون على القراءة والكتابة، ما يعني هناك صعوبة في فهم واستيعاب ما تعنيه الفصحى من خلال احتوائها على مفردات لم تطرق سمعهم.
وهناك مشكلة أخرى تعاني منها اللغة ويجد الشباب، الجيل الناشئة، صعوبة بالغة في التعامل معها، وهي مشكلة اختلاف اللهجات العامية في البلد الواحد، فضلاً عن ظاهرة استخدام كثير من الأدباء والمفكرين للهجات العامية في نتاجاتهم الإبداعية، وهذه ما ينتج عنها ضعف لغوي لدى فئة غير محدودة وبخاصة في المرحلة الابتدائية، وإسناد تعليم اللغة العربية في هذه المرحلة إلى معلمين غير مؤهلين لتدريسها، ومن هنا صار جلياً الركض خلف الأسماء الأجنبية والبحث عنها، والكل يرفض اللغة العربية وبخاصة جيل الشباب، ويعتقد البعض أنّ الحضارة مرتبطة بالأسماء الأجنبية، وأن التخلّف مرتبط باللغة العربية، ويكفي أن نشير هنا إلى أن أغلب الفنادق التي تم إنشاؤها في السنوات الأخيرة ـ وهي كثير جداً ـ بالكاد أن تجد بينها فندقاً واحداً يحمل اسماً عربياً.
الغريب في هذه الظاهرة أنها لم تعد تصدم الذوق العام، ولم يعد فيها أي استفزاز للمواطنين، بل إنَّ الجميع يتقبلون الأمر ببساطة.. والمعنى الوحيد لهذه الظاهرة، ولعدم ضيقنا بها، هو أن إحساسنا بقيمة اللغة القومية قد انتهى، وأصبح صفحة منطوية من صفحات التاريخ القديم.
وقد صاحب هذه الظاهرة العامّة الرئيسية ظواهر أخرى كثيرة، مثل انتشار الخطأ اللغوي في الصحف والمجلات والكتب المطبوعة، وانتشار هذا الخطأ على ألسنة المذيعين والمذيعات في أجهزة الإعلام المختلفة. وفي نفس الوقت نلاحظ كثرة استخدام الألفاظ الأجنبية على ألسنة المتحدّثين الذين يحاولون الظهور بمظهر حضاري لائق بهم، لأن الحديث باللغة العربية الخالصة هو عند هؤلاء أصبح دليلاً من أدلة الجهل وعدم المعرفة بثقافة العصر.
وهذه الظواهر كلها دليل فادح على عدم الثقة بالنفس، والخضوع لسيطرة الشخصية الأجنبية التي أصبحت تغزو عقولنا ومشاعرنا وحياتنا اليومية. ولا يوجد شعب في العالم يقبل مثل هذا الخضوع اللغوي للآخرين باختياره وإرادته.
الإنكليز يُقدسون لغتهم ويبذلون جهوداً غير عادية لنشرها في أنحاء العالم كله، ولا يبخلون بالأموال الكثيرة في سبيل دعم هذه اللغة وتمكينها من السيادة والانتشار في العالم. وفي أي أرض تتيح للإنكليز أن يفتحوا مركزاً بريطانياً لتعليم اللغة الإنكليزية فإنهم لا يترددون في ذلك، بل يسارعون إليه، ويدفعون المكافآت والجوائز التشجيعية للطلاب الأجانب حتى يتعلموا اللغة الإنكليزية ويتقنونها أشد الاتقان.
والفرنسيون يفعلون الشيء نفسه ويبذلون الجهد والمال لنشر لغتهم والوقوف كمنافسين أشدّاء للإنكليز في الصراع اللغوي العالمي الكبير.
كل شعوب العالم تفعل ذلك، ولا تكتفي بالاهتمام بلغتها في الداخل، بل تعمل على التبشير بهذه اللغة في كل الأوطان الأخرى وبين جميع الأجناس البشرية.
وهذه علامة من علامات الصحّة الحضارية واحترام الذات والحرص على قوّة الأمّة والعمل الدائم على أن تكون هذه الأمّة مؤثرة على الآخرين.
فما الذي أصابنا نحن حتى أصبحنا نتنازل عن لغتنا باختيارنا، ونوجّه إليها الطعنات كل يوم وكأنها ليست لغتنا القومية، بل هي لغة أعداء لنا لا يستحقون منا إلّا الكراهية والرفض؟
لماذا أصبحنا نستهين باللغة العربية هذه الاستهانة الواسعة الشاملة دون أن تجد هذه الاستهانة رادعاً من القانون أو من الرأي العام؟
إنّها ظاهرة تدلّ على أن المرض قد استولى على جسم الأمّة وعقلها ونفسيتها، وأن هذا المرض، لقوّة انتشاره وسيطرته على الجسم، لم يَعُد أحداً يشعر به أو يخشى منه.
لقد تعرّضت اللغة العربية من قبل لحروب عنيفة، ولكن هذه الحروب كانت دائماً وافدة عليها من الخارج، أي إن الذين شنّوا هذه الحروب كانوا دائماً من الأعداء وأصحاب المصلحة من الأجانب.
كان المستشرقون يطلبون منّا التخلي عن اللغة العربية، وإحلال اللهجة العامّية مكانها، ليصبح هناك ما يمكن تسميته باسم اللغة العامية الخاصة بنا والبعيدة عن اللغة العربية تماماً.
ولم يكن هؤلاء المستشرقون يعلمون أنهم بعد مرور ما يقرب من قرن على دعوتهم إلى العامية وإحلالها محل اللغة العربية، أنّه سوف يظهر جيل في بلادنا يسبقهم في دعوتهم ويرفض اللغة العربية واللهجة العامّية معاً، ويحرصُ كل الحرص على أن تكون اللغة التي يستخدمها هي الإنكليزية أو الفرنسية.. وأين؟
إنّ هذا الجيل يستخدم هذه اللغات الأجنبية ليس في لندن أو باريس، وإنما في القاهرة وفي دمشق .. في بغداد ودبي وعمان وتونس وطرابلس الغرب والجزائروالرباط والخرطوم، وفي سائر المدن والقرى، وبذلك تجاوز هذا الجيل كل أحلام المستشرقين الذين تبنوا الدعوة إلى الابتعاد عن اللغة العربية واستخدام العامّية بدلاً منها.
وهكذا انتقلت الحرب على اللغة العربية من المستشرقين الأجانب، إلى أهل البلاد أنفسهم، فهم الذين يقومون الآن بالجهد الأكبر في سبيل تحطيم اللغة العربية، وجعل الواجهة اللغوية للبلاد واجهة أجنبية خالصة.
وأخطر ما في هذه الظاهرة الجديدة أننا لا نشعر بالقلق، ولا نحس بأي خطر علينا في هذا المجال، فلا أحد يتحرّك ولا قانون يصدر، وإذا كتب كاتب أو تحدث إنسان حول هذه الظاهرة، نظر إليه الناس على أنه واحد من الذين يشغلون أنفسهم بأمور لا أهمية لها ولا قيمة.
لماذا وصل إحساسنا بهذه الظاهرة إلى هذا الحد من التبلّد؟ وكيف يتحول الشارع العربي في سنوات قليلة إلى شارع أجنبي في كل ما يستخدمه من لافتات وأسماء؟ وكيف أصبحت اللغة العربية مهزومة على يد أبنائها إلى هذا الحد أمام كل اللغات الأجنبية الأخرى؟ وما أفدح ما نعاني منه دون أن ندري… لقد مات إحساسنا بلغتنا، ولم نعد نشعر بأن كرامة اللغة من كرامة الشعوب.
وهناك قلة من الشباب، وبصورة خاصة في بلاد الاغتراب، ممن سنحت لهم الفرصة في اللجوء بعيداً عن بلادهم الأصلية، إنهم هجروا اللغة، ولم تعد تعني لهم شيئاً، فبتنا نجد كثيراً من الشباب اليوم بعيداً عن الاهتمام بلغته، أو محاولته التقرب إليها من خلال الانخراط في مدارس عربية تهتم باللغة العربية، وتعلمها، وهذا ما أفرز جيلاً واسعلاً من الشباب يجهل تماماً لغته الأم وكيفية التعامل معها؟ والنسبة في هذا الإطار كبيرة وكبيرة جداً، لأنه لم يعد هناك إلّا نسبة ضعيفة جداً ممن ظلوا يجاهدون في الركض وراء تعلمها، وبمساعدة الأهل أنفسهم، وإلحاحهم المستمر، وبصورة خاصة بالنسبة للأطفال، أو حتى لفئة الشباب.
إنَّ أغلبية هؤلاء بحاجة إلى إعادة الاعتبار للغة العربية التي لم تعن للكثير شيئاً، وكل اهتمامهم منصب في تعلم اللغات الأجنبية التي يفضلونها عن لغتهم الأم، بل ويفاخرون بها.
إنَّ عودة الشباب إلى ساحة اللغة العربية، وإدراجها ضمن خطة مدروسة بهدف تعلمها، فهذا يتطلب متابعة جادة من قبل الجاليات العربية في بلاد الاغتراب، وبإلحاح من قبل الأهالي المعنيين أولا ًبإلزام أبنائهم وترسيخ دورهم في تعليم أبنائهم اللغة العربية، وهذا يعتمد على إصرارهم، وتفعيل دورهم حتى نتمكن من إعادة جيل كامل إلى حضن اللغة العربية، وتعلمها للحفاظ عليها، وهذا ما نأمله من خلال دعم السفارات العربية وملحقياتها الثقافية في الخارج، من خلال الإشراف على هذا الجيل، وتحفيز أمثال هؤلاء الراغبين في تعلمها وتشجيعهم، والعمل على ترغيبهم للحفاظ على لغتنا الأم.
العدد 1135 – 7-3-2023