فجأة، ومن دون سابق إنذار أو مقدمات، قامت الدنيا ولم تقعد داخل وزارة المالية، وتحديداً في المديرية العامة للجمارك لحظه ضبطهم عمليات تلاعب وتزوير بالبيانات الجمركية، والإيصالات المالية، والمستندات والوثائق الرسمية، أبطالها عدد من التجار والمستورين المشبوهين الذين كانوا وما زالوا على أتم الجاهزية وكامل الاستعداد لبذل الغالي وتقديم النفيس في سبيل عدم تسجيل فقدان منتج واحد كمالي أو رئيسي “حتى لو كان قماشاً” في أسواقنا المحلية، حتى لو أضطرهم الأمر لارتكاب جرم التزوير وهدر المال العام دون الخاص.
ما جرى لا يمكن وصفه أو إدراجه إلا تحت مسمى وبند المسرحية الهزلية التي أكل عليها الدهر وشرب، وخروجها المتعمد عن النصوص والقواعد القانونية التي شرعت خدمة للاقتصاد الوطني ولا شيء آخر إلا الاقتصاد الوطني.
نعم الدنيا قامت ولم تقعد ليس حباً وفرحاً وافتخاراً ونشوةً بعمليات الضبط التي تم تسجيلها مؤخراً، وإنما بالمعلومات الواردة إلى داخل البيت الجمركي التي تفيد وتؤكد أن الحالات التي تم ضبطها بالجرم المشهود ماهي إلا طرف خيط لحالات فساد أخرى، في محافظات أخرى، بأساليب ملتوية وطرق احتيالية أخرى، لمواد ومنتجات أخرى، وتاجر آخر، ومخلص آخر، ومستورد آخر، ومتواطئ آخر، الذين لا شعار لهم في هذه الحياة إلا “الدراهم كالمراهم، والتجارة شطارة فيها الربح دون الخسارة”، بغض النظر عن ظروف الحرب، والحصار، والعقوبات، والمقاطعة، والمضاربة على الليرة، وكورونا، والعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والكوليرا، والزلزال، والدمار والخراب، والرعب، والضحايا، والجرحى، والمفقودين.
ما جرى لا يمت بأي صلة للأخطاء المطبعية أو البشرية، ولا رابط على وجه الكرة الأرضية يجمعه أو يربطه بكل ما له علاقة بحسن النية ..
ما جرى من أعمال تمهيدية وتحضيرية سبقت الخطوات التنفيذية المبيتة، هي مرحلة لاحقة لارتكاب الفعل الجرمي وإلحاق الأذى باقتصادنا الوطني الذي بات بأمس الحاجة اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى فزعة حكومية عالية المستوى، تقتلع من حلق اقتصادنا شوكة التهرب الضريبي، وتنتزع من خاصرته خنجر التهريب، وتسحب من عينه مخرز المحسوبيات، وتضرب بيد من فولاذ لا من حديد على يد ورؤوس التجار والمخلصين والمستوردين المستميتين للتحول الصاروخي بين ليلة وضحاها من أسماك سردين مشبوهة إلى حيتان أكثر شبهة.