الملحق الثقافي- مها محفوض محمد:
يبدو السؤال التالي ملحاً على المنظرين في الأدب والنقد ألا وهو:
ما الذي نستفْسِرُ عنه حين نَسألُ عن مستقبل الأدب؟ وماذا نعني بمستقبلِ الأدب؟، إننا نسأل عن: كيف سيختلف الأدبُ في قابلِ الزمان عمّا هو عليه الآن، ومتى نتوقّع حدوث ذلك الاختلاف ولماذا؟
جيمس كوربي كان قد أجاب عليه من خلال مقال جميل ومهم، ترجمه فارس عزيز المدرس يقول جيمس:
ما الذي يقودُنا إلى الاعتقاد بأنَّ المستقبلَ حالةٌ فريدةٌ مِن نوعِها، أي أنّه البَوتقة التي قد يحدث من خلالِها تحوّلٌ جذريٌّ؟، لكننا قد نسلك سلوكاً معاكساً، ونسأل عن تاريخ الأدب بوصفِ الحاضر كان مُستقبلاً لأدب الماضي، ومع ذلك فالمستقبلُ لا يمكن معرفته بطريقةِ معرفتنا بالحاضر والماضي.
لذا علينا أن نعترفَ بأنَّ المستقبلَ لا يمكن معرفته تماماً، وإذا كان المستقبلُ غير محدّد، فالتكهنُ بمستقبلِ الأدبِ سيكون بلا فائدة، لذلك لدينا توقعات وآمال ومخاوف بشأن المستقبل.
لا نحاول توقّع حالةِ الأدب بعد ألف سنة، ولا حتى مئة سنة، كلّ هذه العقود الآجلة بعيدة جداً، بحيث تجعل أيَّ محاولةٍ لوضعها بشكلٍ واضح أمراً غيرَ علميٍّ ومثيرٍ للشفقة، وسيكون مِن منظورٍ واقعي مادةً للخيالِ وأحلام اليقظة، وعليه أقترح أنَّ مستقبلَ الأدبِ قد يبدأ بعد نحو خمس سنوات مِن الآن، ويبدو أنَّ خمسَ سنواتٍ تسمح بإمكانيَّة حدوث تغيّر كافٍ لتمييز مساحةٍ يمكن أن تحدثَ فيها تحولاتٌ واضحةٌ وغير مسبوقة.
مِن المؤكّد أنَّ هناك افتتاناً بالفكرةِ القائلةِ بأنَّه في غضونِ عشرين عاماً ربما تسير الأمور على نحو سيئ، وقد يجد أعضاءُ جمعيَّة مستقبلياتِ الأدب Futures of Literature أنفسَهم يدفعون عربةَ تسوّقٍ مليئة بمواد هزيلةٍ على طريق ريفي قاتم وقاحل، هروباً مِن عصابات آكلي لحوم البشر المتجولة، لكنَّ النسخةَ المروعة مِن المستقبل هي آخرُ شيء يدور في أذهاننا. وببساطة لا يوجد مستقبلٌ للأدب، ما دمنا نتوقع حدوث كارثة عالميَّة في حياتنا، وهذا هو السببُ وراء لا جدوى ترقُّبِنا أو توقّعنا حالة الأدب في آماد بعيدة.
أودّ أن أقترح شيئين يعززان جدوى توقعنا أولاً: الإيمان بالتقدّم الذي قد يُنظرُ إليه على أنه أقرب إلى الإيمان الديني، إذ يبدو أنه يَعِد بالخلاصِ مِن واقع غيرِ مَرْضيٍّ عنه، وقد تكون الأمورُ سيئةً في الوقت الحالي وفي الماضي، لكنَّ الإيمانَ بقانونِ التقدّم يؤكد أنَّ الأمورَ ستتحسّن، لذلك يجب أن نثقَ بالمستقبل.
إنَّ العناية التاريخيَّة theodicy، ليست مدهشة فحسبُ، بل هي متماسكة، وما يدفع إلى ذلك هو أيديولوجيَّة إنسانيَّة تشير إلى أنَّ البشرَ يمكن أن يصنعوا بأنفسهم عالماً أفضل مِن أيِّ عالمٍ عاشوا فيه، وما يمنح المصداقيَّة لهذا سرعةُ تطور العلم والتكنولوجيا، وبالتالي قد نعدُّ الإيمانَ بوعدِ العلم تصحيحاً لحالتِنا البشريَّة، وإزاحةً للمخاوف الموجودةِ في السياقات الدينيَّة، وقل ذلك مع الهوس الفلسفي في التغلب على الميتافيزيقيا.
إنَّ الإيمانَ بالتقدّم ظاهرةٌ حديثةٌ في أوروبا، تنامت مع بروز الرأسماليَّة كنظام مهيمن، فالرأسماليَّة موجهةٌ نحو المستقبل بشكلٍ حتمي، ولكن أيُّ مُستقبل تحديداً؟!، ثم كيف لنا أن نشطبَ تواريخ أممٍ أخرى وآدابها، ونحيل كلَّ تغيّر في الأدب إلى الرأسماليَّة فحسب؟!، إننا نفعل ذلك لأننا نرى أنَّ العالمَ كله أضحى مُنساقاً لأطر الرأسماليَّة، أو متأثراً بظلالِها وتأثيراتها.
يُدركوا أنَّ الرضا عن الذات أمرٌ نسبيٌّ، وليس مِن المستغرب أن يصبحَ الأمر كذلك مع ظهورِ المفهوم الحديث للتقدم، الأدبُ بطبيعته يمكن أن يحافظَ على قدرٍ من الانفتاح، لكنّ قسر التفكير المستقبلي على الرسماليَّة وفتن الحداثة يفعلان العكس تماماً، ويغلقان منافذَ الانفتاح، ومثل هكذا انفتاح خضوعٌ وتأطيرٌ مستمدٌ مِن روح تكنولوجيَّة بحتة، ومِن هنا فهِم هايدجرُ التكنولوجيا بأنها غيرُ قادرةٍ على السماحِ للكائنات أن تكون كلّ شيء، بما في ذلك الإنسان نفسه، الذي قد يصبح شيئاً يمكن التخلص منه، لذا سيرتهن مستقبل الأدب بخضوعه للتكنولوجيا، والمستقبل لم يَعُدْ هو الذي ينتج الأدبَ، فالأدب سيأتي مجبراً على التطور والتغيير مِن أجلِ خدمةِ فكرة تكنولوجيَّة عن المستقبل، وبعبارةٍ أخرى، يصبح الأدبُ أحدَ الأشياء التي يتم الاستيلاء عليها، للحفاظ على النظرةِ العالميَّة للرأسماليَّة التقنيَّة.
وكان الناقد الفرنسي بول لومبار: قد رأى أن الأدب هو مستقبل أوروبا إذ يشير إلى أن تلوث لغوي وتغييب لقامات الأدب، انقراض الكتاب الأفذاذ واختفاء المؤلفات الكبرى على امتداد القارة، فأوروبا الأدب لم تفز في الانتخابات الأخيرة ومناضلوها لن يحرقوا التماثيل الورقية في الشوارع، طبعاً لن نندهش لذلك لأن حزب الأدب لم يوجد بعد.
نحن اليوم أمام مفارقة كبيرة، فجمهورية الآداب توطدت ما بين حروب الدين والثورة الفرنسية وكانت أوروبا كلما تمزقت انعكس ذلك على ثقافتها، حتى عندما اتحدت وقام السلام وتشابهت العادات ذهب كل بلد إلى عزلته القاسية، لم يمر على أوروبا زمن كانت فيه متباعدة بهذا الشكل على صعيد الإبداع الأدبي الذي لا حدود له.
في بداية القرن العشرين عندما كان الناقد الألماني كورتيوس يشيد بأوروبا على أنها الأبنة الروحية لأثينا وروما كان الحلم ما زال متاحاً أمامنا، وفي عام 1952 أعلن إيريخ أورباخ في مقال له عن أيام قادمة قاتمة بالقول: على الإنسان أن يعتاد على العيش في عالم نمطي وفي ثقافة أدبية واحدة، وعلى تراجع عدد اللغات الأدبية إلى عدد محدود إن لم نقل في واحدة، وهكذا سوف تكون أمة الأدب الواحدة قد تحققت ودمرت في آن معاً.
هذا الأدب الذي تمازجت حدوده مع العالم القديم والذي كان يراه غوته تقدماً لا عودة عنه وجد في عصر النور من خلال فولتير ومراسلاته المتعددة ما بين لندن وسان بطرسبرغ، هذا الأدب تحول إلى روايات مكتوبة بريشة مدام جيرمان دوستال وبن جامان كونستان، وعظم بقوافي بايرون وبوشكين، وسيس بقلم شاتوبريان وموزوني، وصعد درجات السمو عبر فيكتور هيغ، وتولستوي، وتجدد مع توماس مان وأندريه جيد، لكن ويا للأسف لا توجد صورة أي من هؤلاء على بطاقة عملة اليورو.
اليوم ما يوحد قراءنا هو الثقافة الشعبية، وهذا الميل يظهر جلياً في طوابير الانتظار أمام نوافذ السينما حيث تعرض أعمال هاري بوتر وحكايات غرين، فماذا نستطيع القول عن الكاتب الأوروبي، إن بطاقة الهوية واللغة لا يشكلان عناوين حقيقية.
كافكا بول سيلان وجورج بيرك كانا يكتبان بالألمانية أو بالفرنسية، أما إيمي سيزير النائب في البرلمان والمنتمي إلى بلد أوروبي مؤسس للاتحاد لم يعتبره أحد شاعراً أوروبياً.
منذ عامين كاد ناشر بلجيكي أن ينتج أول دليل تعليمي لتاريخ الأدب على صعيد القارة تحت عنوان الآداب الأوروبية وبعد فترة وجيزة قال ميلان كونديرا وهو من الشخصيات الأساسية في الكتاب: إن أوروبا لم تنجح في توحيد تفكيرها الأدبي كوحدة تاريخية، ولن أتوقف عن الاعتقاد أن ذلك هو إخفاق ثقافي لا يمكن إصلاحه.
عندما يعترض كونديرا على الوضع القائم فهو على قناعة بأن الأدب ضحية إهمال ذو منشأ سياسي، إن الآمال كبيرة لكنها تبقى تحلق كشبح فوق العاصمة الأوروبية ستراسبورغ ولا أحد يسمع شكواها، وهناك موسيقا ومسرح وفن أوروبي مثقل بهيمنة اللغة الإنكليزية التجارية، وانطوائية اللغات الأخرى على نفسها.
ويضع أمبرتوا إيكو أصبعه على الجرح عندما يؤكد أن لغة أوروبا الحقيقية هي الترجمة لكن هذه اللغة لا يتقاسمها، لأن الإنكليزية تغلق أبوابها أمام المؤلفات الأجنبية في حين أنها تبدو الملاذ الأخير للفرنسية، بالطبع لن نعود إلى ذاك الزمن حيث كانت باريس عاصمة الآداب العالمية، يوم كان كازانوتا وبوتوكي وسيوران وبيكيت، هؤلاء الذين تمسكوا بلغة فولتير.
الأدب الفرنسي لم يعد قادراً على الادعاء بأنه يستطيع تعميم نمطه على الآداب الأخرى، لكن حين نفتح باب ضيافتنا للآداب الأخرى عبر الترجمة ولكل المؤلفات الأوروبية يمكن أن نحرك بذلك حلم الثقافة العالمية كما كان يراه كتاب عصر التنوير.
أوروبا هي ابنة الشعر ورثناها من اليونان والرومان والأدب هو مستقبلها وهذه هي قناعتي الشخصية.
العدد 1138 – 28-3-2023