الملحق الثقافي-سلام الفاضل:
يتناول المفكر ميثم الجنابي الجانب اللغوي المؤسس للقومية العربية الذي كان رائده المفكر الراحل زكي الأرسوزي ولاسيما في نظريته المهمة (العبقرية العربية في لسانها) ويرى ميثم الجنابي في الحوار المتمدن حيث ناقش الفكرة وطرحها (للفكرة القومية، شأن كل الأفكار الكبرى، لحظتها التأسيسية الأولى. وقد شاءت الصدف أن ترتبط بشخصية الأرسوزي (1900-1968). الأمر الذي جعل منه فيلسوف الفكرة القومية العربية الأول في العصر الحديث. وليس مصادفة أن تكون فلسفته بهذا الصدد فلسفة شخصية أيضاً. فهو الفيلسوف الذائب في الفكرة القومية بوصفه رحيقها الأول. إذ تكاملت في ذاته وإنتاجه الفكري الفلسفي بوصفها رؤية منظومة ونسق يتغلغل في كل أنساق وجوده الشخصي والاجتماعي والوطني والقومي والروحي والسياسي. وقد جرى تأسيس هذه الرؤية وتطويرها وتدقيقها في عدد من المؤلفات الأساسية مثل (العبقرية العربية في لسانها)(1943) و(الأخلاق والفلسفة)(1948)، و(والمدنية والثقافة)(1954) و(الأمة العربية)(1955) و(مشاكلنا القومية)(1955-1958) و(صوت العرب في لواء الاسكندرون)(1961) و(بعث الأمة العربية – اللسان العربي)(1963) و(الجمهورية المثلى) (1964). وغيرها من الكتب، وبالأخص ما يتعلق منها بالفلسفة مثل (رسالة عن النفس)(1953) و(رسالة عن الفلسفة)(1954) و(متى يكون الحكم ديمقراطياً)(1961) وغيرها مما جرى جمعه ونشره في (المؤلفات الكاملة) (أربعة أجزاء) في دمشق عام 1972.
فالطابع الشخصي لفلسفة الأرسوزي يبرز أيضاً على مثال حياته وموته، أي إن تاريخها النظري يتمثل أيضاً تاريخه الشخصي. فقد ولد الأرسوزي في بداية القرن العشرين وتوفي بعد الانتكاسة الكبرى الأولى في تاريخه القومي الحديث. بمعنى إننا نعثر في حياته ومماته على تمثل نموذجي لحياة الفكرة العربية من حيث ولادتها وموتها الأول، أي ظهورها وفسادها. وقد كانت تلك الفاجعة الأولى التي سوف تعطي للفقدان قوة الوجدان. بمعنى إن ضياع الأرض الفلسطينية المؤقت قد أدى إلى اكتشافها الروحي الأوسع. ومن ثم نقلها إلى حيز المصدر الدائم في شحن وشحذ الوجدان العربي. مع ما ترتب عليه من اكتشاف أولي المكر العقل التاريخي العربي وتقوية إقدامه للنهوض الجديد بعد الغيبوبة الطويلة في دهاليز الزمن الضائع.
ولكن قبل أن تعاني الفكرة القومية العربية من هذا المخاض الأول، فإنها قد عانت ولادتها التاريخية الكبرى في شخصية الأرسوزي ومعاناة إبداعه الفكري. فقد تمثل الأرسوزي التاريخ الواقعي والفعلي بمعايير الوجع الميتافيزيقي للروح الولهان بوهج المعاصرة. وفي هذا يكمن سره الهائج بالبحث في اللغة وعوالمها المافوق تاريخية من أجل بلورة فكرة عن التاريخ. وفي هذا أيضا كانت تكمن المعاناة الروحية العميقة لهذه الفكرة وذبولها الجسدي في دهاليز البحث عن بعث قومي وجد لغوه في اللغة وثرائه في ثرثرته!
فمن الناحية الظاهرية يمكن النظر إلى الولع اللغوي والتأويل المفتعل كما لو أنه الجامع الذي يجمع فلسفة الأرسوزي. فقد جّسد الأرسوزي في آرائه وتحليله ومواقفه ومفارقاته حب اللغة في مختلف مستوياته وأنواعه من إعجاب وغرام وحب وهيام وعشق حد الفسق. لهذا نرى فيها وفيما أجهد نفسه واجتهد للبرهنة عليه مجرد أمور بسيطة ومطروقة يمكن وضعها في عبارات «صوتية» قليلة، هي الأكثر رقة وجمالية مثل قوله «مثل الإنسان كمثل الطائر ينبت ريشه بالهمة»، و»الحياة تنشئ بنيانها وبدنها بحسب غايتها في الوجود» وأمثالها الكثيرة. بحيث نقف أحياناً أمام صورة مغرية للخيال عن شخصيته الحكواتية الكبيرة وجمهورها الغفير في أحد الجوامع الإسلامية الكبرى، فيما لو أنه ولد قبل ألف عام. لكنه ولد بعد ألف عام! وبالتالي، فإن ما وراء اللغو والثرثرة الظاهرية كانت تكمن وتتفاعل عوالم اللغة الثرية الهائلة والصاخبة بوصفها عوالم التراث والماضي والأنا المنسية. بعبارة أخرى، لقد أراد الأرسوزي أن يضع هذا الثالوث المغمور على نار الوجد المعاصر لكي تلتهب مكوناته «الخالدة» في وجدان الفكرة القومية الحديثة. وهذا بدوره لم يكن معزولاً عن مخاض التحرر ومعاناة تأسيس الدولة القومية في عالم الفكر وميدان الحياة السياسية.
فقد عايش الأرسوزي صعود الفكرة القومية ورؤية ملامحها المتراكمة، كما عايش بالقدر ذاته انحدار المشروع القومي صوب القطرية المحاصرة، وتعرضه اللاحق للتجزئة الثقافية والتهرؤ السياسي. وفيما بين هذه البداية والنهاية تلألأت رؤيته الفلسفية للفكرة القومية العربية، بوصفها معاناة أولية حقيقية كبرى. بحيث تطابق مضمون هذه المعاناة مع كيفية ونوعية الصيغة الأولية لما يمكن دعوته بفلسفة الأنا الثقافية. الأمر الذي جعل من الأرسوزي فيلسوف الأنا القومية الثقافية. ومن ثم احتواء تأسيسه النظري على بوادر الرؤية الأولية لفكرة القومية التلقائية (الروحية). وبالتالي، لم يكن مضمون الرجوع إلى ميتافيزيقيا اللغة المتسامية والخالدة عنده سوى محاولة انتشال الفكرة من السقوط والانحدار صوب تجزئتها إلى حروف منفصلة لا تستقيم مع حقيقة العربية، والركض وراء جمعها في كلمات بلا عبارة! ذلك يعني، إن الاتجاه صوب ملكوت اللغة كان بالنسبة له أسلوب الرجوع إلى الملك العربي المفقود، أي الواقع البائس! لكن مأثرة الأرسوزي تقوم في محاولته تحويل البؤس المادي إلى بأس روحي. من هنا أصبح السباحة في عالم الملكوت أسلوب تأمل المعنى والوجوب. مع ما ترتب عليه من توحيد العربية النموذجية في حروفها لكلمات النطق والمنطق الروحي للماضي والحاضر والمستقبل.
من هنا محاولته تأسيس فهمه الجديد لقضية أصل اللغة. إذ نراه يبدأ من تناول القضية – الإشكالية القديمة عما إذا كانت اللغة اصطلاحية (موضوعة من قبل العقل) أو نتاجاً للوحي، لكي يؤسس على كيفية حلها فكرته عن القومية العربية. فقد انطلق من المقدمة القائلة، بأن ربط اللغة (العربية) بالغيب تضييق على العقل. كما أن اعتبار اللغة مجموعة من الرموز موضوعة من قبل العقل هو دوران في حلقة مفرغة. وذلك لأن هذا القول يفترض وجود عقل كامل. وكيف يمكن ذلك دون كلام (اللغة)؟ ووجد الأرسوزي الحل فيما اسماه «بالصدفة السعيدة» في اكتشاف جذر اللغة (العربية). وعثر عليه فيما سماه منهج اللسان العربي بوصفه جذر «اللغة الكونية». ما حدد بدوره طابعها المتميز وأصالتها التي ينبغي أن تستعيد هيئتها الأولى بوصفها فكرة قومية أصيلة.)
العدد 1140 – 11-4-2023