الملحق الثقافي-عبد الحميد غانم:
يتسم تقدّم أي أمة أو شعب أو بلد أو حتى إنسان بالقدرة على تطوير فكره وواقعه ومحاكاة المستقبل، فالفكر لا يهزم ولا يسقط، وإنما يتجدد ويتطور ويتقدم، وعندما يصطدم بمعوقات وعقبات، يعمل حاملو هذا الفكر على التغلب على تلك المعوقات، وتغيير الأدوات من أجل التجديد والتطوير، وهنا تكمن عملية التحول النوعي للفكر.
والفكر القومي العربي هو أحد أوجه الفكر الإنساني الذي ساهم ويساهم في عملية التطور الإنساني الثقافي الحضاري، فهو فكر إنساني يؤمن بأن الإنسانية مجموع متضامن يسعى إلى تحقيق أهداف وقيم إنسانية ونظم سياسية عادلة تحقق الرفاهية والسلام والسمو في الخلق والروح، ورفض الظلم والاحتلال والعدوان وتقديم المساعدة للشعوب المحتاجة.
لكن ماذا يميز الفكر القومي العربي؟
أولاً: الاعتراف بوجود قومية عربية لديها الحق بأن تصبح أمة ذات سيادة.
وثانياً: الادعاء (الذي يجب أن يُبَرّر بالممارسة) أن منطلق التنظير وصياغة البرامج السياسية المشتقة عنه هو مجمل مصلحة الأمة وليس مصلحة فئة ما في الأمة.
وعندما يتعامل حامل الفكرة القومية- إذا كان ديمقراطياً ومنفتحاً- مع حاجات الناس والشباب المباشرة فسوف يكتشف مصادر قوته ذاتها.
فمثلاً سوف يكتشف أن الهوية ليست مسألة نظرية بل هي شاغل أساس وملح بالنسبة للناس والشباب مثل بقية حاجاتهم الأساسية، كما سوف يكتشف أن الجواب المتمثل بالهوية العربية المنفتحة غير الاقصائية في مقابل الطائفية والعشائرية، هي أحد مصادر قوة الفكر القومي والتيار العروبي.
فالقومية العربية التي ينطلق منها الفكر القومي العربي ليست رابطة دم ولا عرق، بل هي جماعة متخيلة بأدوات اللغة ووسائل الاتصال الحديثة تسعى لتصبح أمة ذات سيادة.
والتبرير والتنظير لهذا السعي هما الأيديولوجية القومية العربية.
القومية هي غير العروبة القائمة منذ ألفي عام، وهي بالتأكيد غير الإثنية العربية المتخيلة من أصل مشترك.
القومية العربية هي جماعة متخيلة بأدوات اللغة ووسائل الاتصال الحديثة تسعى لتصبح أمة ذات سيادة، كلها جاءت في إطار المثالية والثقافة القومية التي لم تدرك طبيعة الواقع وتحدياته لاسيما جرّاء التطورات السياسية بعد الاستقلال من الاستعمار والاحتلال العثماني والأوروبي الغربي وقيام الدولة ولم تقم وحدة الأمة واستمرار الصراع العربي -الصهيوني.
في الواقع لم يتعّرف المفكرون القوميون العرب، في بادئ الأمر، على الدولة كجهاز متكامل، بل كعناصر مبتورة عن جهاز متكامل للدولة، ومنعزلة عن نظرية متكاملة للدولة، فمصادر القوة لم يروها في الدولة، التي تتطلب إرساء القواعد المادية والتنظيمية والفكرية لبنائها، وإنما بدت لهم ثقافية الطابع.
وحينما تعرضت كتاباتهم لدعائم الدولة السياسية فقد ربطتها بفكرة مثالية عن الوحدة القومية، أكثر مما ربطتها بالقوانين والمؤسسات والجيوش والاقتصاد.
فالحركات السياسية التي تبنت الفكر القومي في أدبياتها وعملت على تنفيذه واقعاً اصطدمت بالكثير من المعوقات، حتى التي وصل منها إلى السلطة، ونجحت في إقامة اتحادات ثنائية وثلاثية ورباعية كخطوة على طريق الوحدة العربية الكبرى، واجهت صعوبات ومعوقات، طرحت تحديات جديدة، ووجدت بوناً شاسعاً بين النظرية والتطبيق على الرغم من الكثير من المقومات التي اعتمد عليها الفكر القومي العربي، وتجمع أبناء الأمة العربية، وهي الأرض والتاريخ واللغة والمصالح، إلا أن هناك مقومات تحتاج من الفكر القومي تجديد نفسه وتطوير أدواته والاستفادة من التجارب الأخرى.
لقد اهتم الفكر القومي العربي بطابع الحكم السياسي وبمظاهر السلطة أكثر مما اهتموا ببناء مرتكزات الدولة الاقتصادية والاجتماعية والقانونية.
ويبدو أنّ مكمن الإشكال راجع إلى أنّ الدعوة القومية العربية، على الرغم من الزخم الذي واكبها في الخمسينات والستينات من القرن الماضي خاصة، لم تبدع آليات تحقّقها وإنجازها في معترك التاريخ.
لذلك يضطر الفكر القومي إلى تجديد نفسه باعتماد أدوات حديثة و عملية قادرة على مواكبة تطورات الوقع وضرورات المستقبل.
فالفكر القومي العربي حمل رسالة إنسانية ليست رسالة محددة خارج المكان والزمان، وإنما رسالة منفتحة لا ترتبط في الماضي فقط بل بالحاضر والمستقبل، تهدف إلى تلبية حاجات الحاضر وضروراته، وتعمل على تجاوز مخلفات الماضي وسلبياته والاستفادة من إيجابياته وتطويرها، وأن يستفيد هذا الفكر من مخزونات الأمة الحضارية الإنسانية لتحقيق الإنجازات القادرة على الارتقاء بفكر الأمة ودورها الحضاري وإزالة العراقيل التي تعطل تنميتها وتطورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
فالوحدة التي اعتبرها الفكر القومي كأساس في قيام الأمة العربية الواحدة ليس تحقيقها بلصق أجزاء من الوطن العربي إلى جانب بعضها البعض، بل هي عملية حضارية نهضوية عظيمة تبعث الطاقة الكامنة في أعماق الأمة، لتعيد انطلاقتها وانبعاثها وتشكيلها بشكل حضاري يرتقي بالدور الإنساني للأمة وبفكرها إلى العالم، عبر إبداعات وإنجازات جديدة ورائدة، تنهض بالحاضر وتحاكي المستقبل برؤية حضارية منفتحة.
إن هذه الأمة التي استطاعت عبر إشراقات عديدة، وفي فترات مختلفة من التاريخ أن تقدّم للإنسانية أعظم الإنجازات منذ آلاف السنين، وكانت مهد الديانات السماوية التي انتشرت في جميع أرجاء العالم، وأرض الحضارات والرسالات، وصاغت الأبجدية الأولى التي انتشرت في القارات الخمس، وابتكرت الأرقام العربية التي لا تزال سائدة إلى اليوم، ووضعت أسس قياس الزمن وتقسيمه على أعوام وشهور وساعات ودقائق، وأسست علوم الفلك والرياضيات والكيمياء والطب، كما حظيت بأفضل الإرهاصات في العالم في مجالات الفكر والأدب والملاحم، وصهرت جميع الحضارات الإنسانية القديمة والعالمية في بوتقة الثقافة العربية، لا تزال هذه الأمة بفضل كل ما تقدم في جوهرها مستمرة في حاضرنا، حتى وإن فقدت اليوم في ظل التطورات الأخيرة في منطقتنا والعالم شيئاً من روح المبادرة وبعض التجانس وروح الإبداع والابتكار، إلا أنها لا تزال قادرة على استعادة دورها الحضاري الإنساني، عندما تعقد العزم على تجاوز الصعاب مهما عظمت، وعلى امتلاك ناصية العلم والمعرفة والتقدّم وخلق مصيرها بنفسها.
ولعل البعث الذي حمل لواء الفكر القومي التقدمي الحضاري كان و لا يزال الحركة السياسية المناضلة الأساس في دفع حركية الفكر القومي وتعامله المنفتح مع الواقع والانطلاق نحو المستقبل المزدهر.
العدد 1140 – 11-4-2023