لعل ذكرى الجلاء التي تأتينا غداً مناسبة للتأكيد على ظاهرة يعرفها الحاضر كما يعرفها التاريخ، وهي أن السوريين كانوا دائماً في موقع الطليعة عندما يتعلق الأمر بمواجهة قوى الاستعمار بشكليه القديم والجديد، ومن أجل التحرير والاستقلال الناجزين، فمناسبة الجلاء هي للتفكير والتمعّن والتأمل وفرصة لاستخلاص الدروس والعبر، وخاصة في ضوء ما نعيش من أحداث جسام، تكالبت فيها كل قوى الشر علينا، لكن علينا الاعتراف بأن كلمة سورية كانت وستبقى هي الكلمة الأقوى في تحديد هوية ومسار المنطقة بلا منازع ، لأن كلمة سورية هي الصفة التي نعتز بها ويتمسك بها كل سوري لأنها تمثل الإرادة والعزيمة والعزة الوطنية.
فعيد الجلاء هو عيد الوطن يحمل في طياته دلالات ومعاني كثيرة، فهو مرتبط بقصة كفاح ونضال طويل خاضته جماهيرنا للتخلص من نير الاستعمار عبر الثورات المتلاحقة والتي اشتعلت في أرجاء بلدنا منذ دخول الاستعمار أرضنا، فأينما اتجهت وذهبت فستروى لك قصص البطولة التي عبرت عنها ملاحم المجد التي سطرها شهداء وأبطال الجلاء، حافزهم التضحية في سبيل حرية الوطن وصون الكرامة وطرد الغاصب، فمن يدقق بطبيعة التفاعل الشعبي مع الجلاء يتحسس معاني الحدث التاريخي، ومن يتمعن بتفاصيل ما جرى يستشعر روح الفعل الوطني وتأثيره في الاستقلال والسيادة على المستقبل، فمن النضال من أجل إجلاء قوات المستعمرين إلى إعلان الاستقلال، ومن البدء بالبناء الوطني السياسي والاقتصادي إلى التطلع نحو المستقبل، يسكن الجلاء بكل هذه المعاني ويملؤها عزيمة وفخراً، وهذا هو جوهر التفاعل الشعبي مع الجلاء ومعانيه المتأصلة فينا.
ولا بد من القول في رحاب هذه الذكرى إن معاني الجلاء عظيمة بعظمة الأحرار الذين ناضلوا ورسموا ملاحم البطولة بأجسادهم ودمائهم، لتبقى بطولاتهم تتناقلها الأجيال، فالمناسبة غالية على قلوبنا جميعاً، فهي تحمل في طياتها تاريخاً طويلاً من النضال، وتعني الطهارة من أشكال الدنس والعبودية والتخلف التي فرضها الاستعمار وحاول جاهداً النيل من كرامة الإنسان في بلدنا، ولكنه فشل فشلاً ذريعاً بفضل المقاومة التي اشتعلت في كل شبر من أرضنا والتي تتجلى بها صور البطولة والنضال حتى نيل الاستقلال والحرية.
تأتينا ذكرى الجلاء غداً وبلدنا يعيش مرحلة صعبة من تاريخه، تتقاطع فيها عوامل خارجية لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، لكننا نقول ونؤكد، مهما اشتدت المحن اليوم فإن القيم التي يحملها السوريون في نفوسهم وتتجذر في وجدانهم وعقولهم هي ما سيكفل حتمية انتصارهم الجديد ودحرهم للإرهاب، ليكون للسوريين عيد جديد هو عيد الانعتاق من وابل المخططات الاستعمارية الجديدة التي ظلت تتوارد على السوريين على مدى أكثر من عقد ونيف من الزمن، مؤكدة أنه لا خوف على سورية ولا أهلها بعد أن جبل تاريخهما بالانتصارات المتوالية والتي ستتوج قريباً بانتصار هو الأهم بفضل العزائم ذاتها التي قادت إلى الاستقلال.
السابق