الثورة – فؤاد مسعد :
«هون منعمرها» .. عبارة معجونة بروح «ابن البلد الأصيل» جاءت ضمن حوار على لسان الحكيم جابر، لخّصت بكثير من العفوية المقولة الأساس في فيلم «الحكيم» إخراج باسل الخطيب وتأليف ديانا جبور وإنتاج المؤسسة العامة للسينما، وشكّلت «الثيمة» التي ينطلق منها جابر في تعاطيه مع شؤون القرية وأهلها،
هم أناس فقراء طحنتهم الحياة بنورجها إلا أن الإصرار على الاستمرار يبقى هو الدافع بالمضي قدماً نحو مستقبل يسعون إلى رسم معالمه.
القوة في البساطة تكمن ربما تكون واحدة من أسرار الفيلم المُعشق بحالات إنسانية تصل حد الطوباوية لدى الحديث عن الحكيم الرجل الهرم الذي لايزال متمسكاً بالبقاء في قرية هجرها معظم أهلها للبحث عن فرص أفضل، هذا التمسك منبعه إيمانه بالانتماء إلى مكان يعطيه من كل قلبه وكيانه، ويبادله فيه العديد من الأهالي المشاعر ذاتها، وإن تسرب اليأس إلى بعضهم إلا أن شدّ الهمم والتكاتف يبقى له أثره في تكريس حالة من التماسك ضمن مجتمع يعاني الفقر والألم والقهر.
هي بساطة بعيدة عن الفذلكة همها طرح مقولة تحمل نبلها وعمقها بأسلوب يمتلك القدرة على التسلل إلى القلوب دون استئذان، ومجمل الأحداث التي مرت لم تنجرف وراء تصعيد مجاني لحالة الأكشن والإثارة، وإنما جاءت مضبوطة ضمن إيقاع سُخّر لخدمة مقولة قدمها فنان كبير مؤثر في مجتمعه يملك في قلوب الناس المكانة والإرث الذي يؤهله ليحمل الرسالة بأمانة وبشحنة عاطفية تفيض إحساساً ليوصلها إلى شط الأمان، هو الفنان القدير دريد لحام.
سعى الفيلم إلى محاكاة الواقع السوري فترة ما بعد الحرب متلمساً ما تركته من آثار في مفاصل الحياة، منتصراً إلى الحالة الإنسانية، حاملاً رسالته بلبوس يخترق عقل وقلب الناس، ممتلكاً خاصية الحميمية والدفء في علاقته مع الجمهور ما أهله ليكون فيلماً عائلياً بامتياز. ولدى تتبع مفردات شخصية الحكيم جابر يمكن التنبؤ بأن الكاتبة عندما خطّت الحوار كانت تكتبه لشخص معين لا غير وكأنها ترسم في ذهنها كيفية نطقه للكلمة وتدرس آلية وقعها على الجمهور، الأمر الذي بدا واضحاً في عمق التأثير الذي تركته شخصية تحمل الطيبة والحب والشهامة، وهذا ما كرّسه إخراج ترجم الحالة بكثير من الصدق مُظهراً أدق التفاصيل بما في ذلك خلجات الوجه ودمعة العين، راصداً اللحظات الوجدانية المؤثرة ليقدمها بإطار بصري شائق مرسخاً الرسائل الإنسانية والأخلاقية المقدمة عبر كاميرا تلتقط روح المشهد ونبض الإحساس بحساسية عالية.
حتى إن التسميات لم تكن عبثية، فاسم «الحكيم» جاء من «الحكمة» وهو ما تم تجسيده فعلاً عبر تعزيز مجموعة من المفاهيم والقيم الأخلاقية التي ترتقي لمستوى الحكمة، أما حفيدته ياسمين «أدت الدور الفنانة ليا مباردي» فحمل اسمها دلالات ارتبطت بالشام «مدينة الياسمين» حيث العطاء والنضارة والحياة التي يفوح عبيرها في المعمورة، وفاح أريج عطائها ومحبتها أينما حلّت في القرية، إلى درجة أنها ساعدت في إنقاذ «أم» دخلت مرحلة الغيبوبة منذ فترة، هي مشاعر متبادلة في عمقها بين الأم وفلذة كبدها، بين الأرض وأبنائها، حدث ذلك في أحد المشاهد الأكثر تأثيراً ضمن الفيلم.
عديدة هي العِبر التي سعى الفيلم إلى طرحها بسلاسة، بما فيها «بر الوالدين، التسامح، العطاء، المحبة، بلسمة الجراح..»، كما شدد على أهمية تماسك العائلة بعد الحرب رغم الفقد والبعد والألم، مؤكداً أن هناك حباً أعمق يمكن أن نعيشه بفعل العطاء، جاء ذلك عبر ذكريات الحكيم في حواره مع ابنته «لا تختصري الحب بأفعال صغيرة أي أحد يمكن أن يعملها، الحب بدو شي كبير شي بيرفعك لفوق»، استطاع فيلم «الحكيم» أن يعكس روح التمسك بالبلد والأصالة المعشقة بالأمل والمؤمنة بالعمل منهجاً لمستقبل أفضل.