خميس بن عبيد القطيطي- كاتب من سلطنة عمان:
العدوان الإسرائيلي عام 1967م طرح أسئلة كثيرة كان لابد منها، وأولها يتعلق بالنظام الدولي والدول الكبرى و”إسرائيل” وظروف المنطقة العربية في ذلك الوقت، إضافة إلى مستوى المواجهة بين العرب والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، كذلك مستوى وحدة الجبهة العربية قبل الحرب، ومدى استعداد القوات العربية لتلك الحرب؟ ويبقى السؤال الأهم: هل كانت الحرب لأسباب طارئة؟ أم أنها مخططة بعناية؟ وافتعلت الأسباب التي قادت نحو الحرب في ظروف لم تكن في صالح العرب؟ وأخيرا، كيف استطاع العرب استعادة زمام المبادرة في ظرف زمني وجيز لتساهم نتيجة المعركة في تحقيق تحول عربي كبير قاد العرب لتحقيق انتصار 1973م الذي كسر أسطورة الجيش الذي لا يقهر بفضل انتصار الجيشين العربيين السوري والمصري؟
للأسف تمكن الأعداء من تحريف بعض الحقائق وتشويه الذاكرة العربية حول كل ما يتعلق بالعروبة والقومية ومفاهيم المقاومة والتحرير والوحدة والعزة والكرامة والصمود، فكثفت قوى الصهيونية والاستعمار منظوماتها الإعلامية، فحدثت ردة عربية تفشت بعد ذلك وأدت إلى انقسام العرب وتشرذم المواقف العربية، ما جعل الفرصة سانحة لاجتياح عاصمة عربية أخرى (بيروت) عام 1982م، وأصبح الوضع العربي يسير من سيئ إلى أسوأ.
يعتقد البعض أن حرب 67م كانت بين العرب و”إسرائيل”، ولكنها في الحقيقة كانت مدبرة ومخططة، وبالتالي فإن التقرير للحشود الإسرائيلية على حدود سورية، والاعتداءات المتكررة من قبل جيش الاحتلال على القرى الفلسطينية في الصفة أعمال مستفزة لدفع العرب نحو تسخين الجبهة، وقد استثمر العدو إعلان عبد الناصر إغلاق مضيق تيران وصنافير ورفض عبور قناة السويس، فكانت هذه كلها إرهاصات دفعت نحو التصعيد، ثم الطلب من القوات الدولية المغادرة، كل تلك الأسباب كانت مفتعلة من قبل القوى الكبرى لتنفيذ ضربة عسكرية ضد العرب لا يقوم بعدها لهم قائمة في ظل تهديدات عبد الناصر وارتفاع نجمه بعد هزيمة العدوان الثلاثي عام 56م، وتحقيقه نجاحات سياسية واقتصادية تنموية وصناعية كبيرة على الساحة المصرية، وظهور مصر كدولة محورية قوية على الساحة الدولية، فكان لابد من مخطط لنقل الحالة المعنوية العربية من عنفوانها إلى حالة هزيمة اشتركت فيها كل قوى الاستعمار الغربية، وهذا ما ذكرته الوثائق والمصادر التي أفرج عنها، ولعل أبرزها كتاب “العملية سيانيد” الذي نشره الكاتب البريطاني “بيتر هونام” في عام 2003م والذي يمكن الاطلاع عليه لمعرفة حجم المخطط الغربي الذي تم إعداده، وقصة المدمرة الأميركية “ليبرتي” التي أغرقت في البحر الأبيض المتوسط، ومشاركة عدد من الطائرات الأميركية والفرنسية والبريطانية التي انطلقت من قواعد مختلفة في حرب 67م، وبالمقابل لا يمكن أن ننكر مسؤولية القيادة السياسية والعسكرية عن تلك الحرب والتي أعلن فيها الرئيس جمال عبد الناصر تحمل كامل المسؤولية عن الخسارة والتنحي ولكن ماذا بعد؟.
كيف استعاد العرب استعادة زمام المبادرة سريعا بعد الحرب؟ لقد كان هدف القوى الاستعمارية أبعد من الهزيمة العسكرية، فقد كانت تهدف إلى إحداث حالة انهيار عربية تامة على مستوى القيادة والتنمية والوحدة وإحداث زعزعة ثقة الجماهير بالرئيس جمال عبد الناصر، وكذلك ضرب وحدة الموقف السياسي العربي، وضرب التنمية والنهضة الصناعية التي شهدتها مصر، وتكريس تفوق عسكري لكيان الاحتلال الإسرائيلي من حيث العدة والعتاد، ولكن ما حدث بعد الحرب هو العكس تماما؛ ففي يوم الـ9 من يونيو أعلن عبد الناصر تحمل كامل المسؤولية عن الهزيمة وأعلن تنحيه عن السلطة وتعيين زكريا محيي الدين خلفا له، لكن الجماهير انطلقت في مختلف المدن المصرية ومختلف الساحات العربية متمسكة بقيادته، وهتفت مطالبة باستمراره في منصبه كقيادة عربية محورية قادرة على تجاوز الهزيمة والتجديد والاستعداد لمعركة التحرير، وهذه الحالة كانت تجسد عملية استفتاء، فقد جددت الجماهير الثقة في قيادته، وفي يوم الـ11 من يونيو مباشرة بدأ الرئيس عبد الناصر أولى عمليات التجديد في قيادات الجيش المصري واستبدال القيادات القديمة وتحديث الجيش، واستثمر علاقاته مع الاتحاد السوفييتي في تسليح الجيش المصري، وحدثت عمليات عسكرية ناجحة شرق القناة؛ ففي الأول من يوليو جرت معركة رأس العش التي تكبدت فيها قوات العدو خسائر في الأرواح والدبابات، وبقيت السيطرة المصرية على منطقة رأس العش حتى حرب السادس من أكتوبر (تشرين) 1973 التي قادتها سورية ومصر بشجاعة منقطعة النظير وحنكة كبيرة وحقق فيها الجيشان السوري والمصري انتصارات كبرى في الجولان وسيناء، وكانت لقيادة سورية الجديدة آنذاك برئاسة الرئيس الراحل حافظ الأسد العامل الأكبر في تحقيق ذلك، وكذا الأمر في وقوف الدول العربية خلف سورية ومصر داعمة ومؤازرة لهما وخاصة قرار الملك فيصل وقف إمداد النفط العربي للدول الداعمة للكيان الإسرائيلي.
وفي الخرطوم اجتمع القادة العرب في أهم وأشهر مؤتمر قمة عربي رافعين اللاءات الثلاث: لا صلح لا تفاوض لا اعتراف، وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، واتحد العرب على إعداد وتجهيز القوات المسلحة، وبدأت حرب الاستنزاف التي أرهقت الكيان الصهيوني اعتبارا من 1 يوليو 1967م وحتى أغسطس 1970م والتي أنهكت قدرات القوات العسكرية طوال أكثر من ألف يوم حدث فيها الكثير من الضربات المدفعية وعمليات داخل خطوط العدو الخلفية، منها تفجير قطار للجنود الإسرائيليين، ومنها عملية إيلات التي دمرت السفينة الإسرائيلية في ميناء إيلات بواسطة قوارب يقودها مجموعة الصاعقة المصرية، وتشكلت المجموعة 39 التي قادها العميد إبراهيم الرفاعي وكان ذلك بعد استشهاد الفريق عبد المنعم رياض وقد نفذت عمليات في عمق أراضي العدو، فاستنجدت “إسرائيل” أكثر من مرة بالولايات المتحدة طالبة السلام مقابل إعادة سيناء كاملة، وهو ما ذكره شمعون بيريز مؤكدا أن هناك (5) محاولات لعقد اتفاقية سلام وإيقاف حرب الاستنزاف مع مصر، ولكن عبد الناصر كان يرفض تلك المبادرات ويؤكد على أن تحرير الجولان والقدس والضفة والقطاع قبل سيناء، وحدثت محاولات عدة للضغط على مصر لدفعها نحو التفاوض والسلام الناقص لكن دون جدوى لأن الجواب كان بتطبيق القرار 242 كاملا والعودة إلى حدود 4 يونيو 1967م وإلا فإن ما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة، وهكذا تحشدت الأمة العربية خلف قيادتها لإزالة آثار العدوان فجرت عدة اجتماعات بين رؤساء الأركان العرب بهدف تخصيص قوات وأسلحة مساندة للحرب القادمة وتدفقت مساهمات مالية كبيرة لإسناد حرب استرداد الكرامة دلالة على وحدة الموقف العربي الرسمي، واستعد العرب للحرب وأجريت تجارب لخطة العبور والتي صادق عليها عبد الناصر (خطة جرانيت) ثم استبدلت بخطة (المآذن العالية)؛ كل ذلك وضع “إسرائيل” أمام حقيقة واحدة وهي الحرب لا محالة، فهناك أمة عربية واحدة على قلب رجل واحد، وأنظمة سياسية عربية على موقف موحد، وقدرات عربية متكاملة من تدريب وتسليح وتخطيط ودراسة موقف شامل حدد كل تفاصيل الحرب، كما استثمر الرئيس جمال عبد الناصر (مهلة) مبادرة روجرز واستطاع خلال (60) يوما تحريك حائط صواريخ الدفاع الجوي إلى قطاع القناة ليسمح بدفاع جوي قريب، وهو ما اعتبرته “إسرائيل” تجاوزا لمبادرة روجرز، لكنها كانت مبادرة وليست معاهدة، ولم تكن أعمالا قتالية بل تحريك قوات في مناطق تحت السيطرة المصرية، والأهم من ذلك أن النمو الاقتصادي المصري في أعوام 68 إلى 70م قفز من ٦% إلى ٨% وارتفعت عجلة الإنتاج، وتقدمت الصناعة وكل جوانب الحياة التنموية والصناعية وعلى مختلف الأصعدة الأخرى في التعليم والصحة والزراعة والخدمات الأساسية في إرادة منقطة النظير، هكذا كانت حركة التاريخ والأحداث التي مكنت العرب من استعادة زمام المبادرة سريعا في ظرف ثلاث سنوات، فجعلت الاحتلال على المحك.
لقد كسب العرب زمام المبادرة فكانوا على استعداد تام لمعركة التحرير واسترداد الكرامة، وأسهم الموقف الجماعي العربي في دعم جبهات القتال، ووحدة الأمة خلف جبهات القتال، كذلك استمرت عجلة الاقتصاد والتنمية بشكل أفضل مما كانت عليه قبل الحرب، لذا لم تكن حرب 67م إلا جولة مع العدو استطاع العرب بعدها مباشرة استعادة زمام المبادرة فتحقق انتصار أكتوبر 73م.
رحم الله أولئك المناضلين الأبطال في تاريخ هذه الأمة الذين أعادوا الكرة على العدو، وسجلوا علامة فارقة في ذاكرة التاريخ العربي الحديث، وما أحوج الأمة العربية اليوم إلى استنهاض الهمم واستعادة وحدة الموقف العربي وتحقيق مشروع عربي متكامل يعيد للعرب مكانتهم، وهنا لابد من ضخ جرعات منبهة في معركة الوعي العربي لمعرفة الصديق من العدو استنادا على حركة هذا التاريخ.
* المقال ينشر بالتزامن مع صحيفة الوطن العمانية ورأي اليوم.