الثورة:
كائنات غريبة بوجوه عابسة مفزعة وملابس قديمة بالية تتدلى من أيديها أعواد قش وأعشاب جافة، تقف وسط الحقول والمزارع بشجاعة وإقدام، ليل نهار بلا كلل ولا ملل، لا يعتريها التعب، ولا يصيبها وهن، تهزها الرياح فتتحرك ذات اليمين وذات اليسار بأنفة واتزان، عندما تراها الطيور تفزع وتفر هاربة بعيدًا عن المحاصيل والغلال، فتحفظ للحقل محصوله وللغيطان ثمارها، وللمزارع بذورها وبراعمها وفاكهتها.
هذه الكائنات الغريبة هي ما يعرف بـ”الفزاعة” في بلاد الشام أو “المخيال” في دول الخليج، أو “خيال المآتة” في مصر (هي كلمة فرعونية الأصل)، أو “خراعة الخضرة” في بعض لهجات العراق.
يُعتبر الفراعنة أول من استخدم “الفزاعة” أو “خيال المآتة” منذ 3000 عام؛ وقد ذكر (خيال المآتة) في النصوص الهيروغليفية وتعني “خيال زراعة”، حيث استخدم المصريون”خيال المآتة” الأولى في التاريخ لحماية حقول القمح الشاسعة على طول نهر النيل من أسراب طيور السمان والسلوي، وقد كانت نسختهم من الفزاعة عبارة عن عامود من الخشب بطول وهيئة الإنسان، ويتم تغطيته ويحشى بخرق وأوراق نباتات وأعشاب جافة وقش، وقد كان المزارعون بذلك الوقت ينشرون إطار خشبي يغطونه بالشباك، ويختبئون في الحقول حيث تُنصب شبكة من خيوط رقيقة ليتم إخافة أسراب الطيور فتعلق في الشبكة، ويكونون بذلك حققوا هدفين بضربة واحدة، فقد أنقذوا محصولهم من خلال إخافة الطيور ومنعها من أكل محاصيل الحبوب وغيرها من المزروعات. في نفس الوقت اصطادوا السمان لتناوله بوجبة العشاء في تلك الليلة.
وانتقلت فكرة خيال المآتة من الفراعنة إلى الإغريق وقاموا بتطويرها، فنحتوها من الخشب بهيئة دمية، وجعلوا منها شخصية أسطورية أطلقوا عليها “بريابوس”، نجل ديونيسوس وأفروديت، مما خلق “فزاعة” كان من المفترض أنها قبيحة بما يكفي لإخافة الطيور بعيدًا عن مزارع الكروم الخاصة بهم، مما يضمن حصادًا جيدًا، ولمزيد من التخويف كان المزارعون يضعون بيد الدمية هراوة وعندما تهب الرياح تتحرك يد الفزاعة فتخيف الطيور فتفر هاربة.
في وقت لاحق نسخ الرومان الفزاعة اليونانية وقدموها إلى أوروبا، في نفس الوقت تقريبًا، بدأ المزارعون اليابانيون في صنع نسختهم من الفزاعة لحماية حقول الأرز. كانت فزاعاتهم تشبه الناس، يرتدون معاطف المطر وقبعات القش، وكانوا يضعون الأسماك والحيوانات الميتة حولها كي تصدر روائح نتنة تُبعد الطيور. وكانوا يسمون فزاعتهم “كاكاشي”، أي ذات الرائحة النتنة.
خلال العصور الوسطى لبريطانيا تم استخدام الأولاد والبنات الصغار كفزاعات حية أو “مخيفو الطيور” حيث كانوا يقومون بدوريات في حقول المحاصيل يخيفون الطيور من خلال التلويح بأذرعهم أو رميها الحجارة، وعقب ظهور الطاعون الذي اجتاح أوروبا بذلك الوقت لم يكن هناك عدد كافٍ من الناس للعمل في الحقول وهكذا صنع المزارعون العرائس من أكياس القش المحشوة، ونحتوا وجوهها بشكل مرعب من القرع واللفت وثبتوها على عمود خشبي ليظهر “رجل القش” والذي اعتُمد عليه لإخافة الطيور.
في هذه الأثناء في الولايات المتحدة، بدأ المزارعون الألمان المهاجرون في صنع فزاعات شبيهة بالبشر تسمى “بوتسامون” أو “البعبع” بحيث يرتدون ملابس قديمة محشوة بالقش مع ربطة عنق حمراء تشبه المنديل حول عنقهم.
ظلت الفزاعات أو خيال المآتة تُستخدم بكثرة وما زالت حتى اليوم كـ “أفخاخ” أو “شُرُك” لحماية الحقول والغيطان لتتحول مؤخرًا لقطعة ديكور مميزة تنقش مناظرنا الطبيعية بالحدائق خلال موسم الخريف، على أن استخدامها قل كثيرًا فلم يعد هناك حاجة لهذه الوسيلة البدائية القديمة لحماية المحاصيل، خاصة بعد ظهور الحل عالي التقنية (الليزر) الذي يستخدم قوة الضوء في مساعدة المزارعين على حماية محاصيلهم من الطيور، وقد تم اختبار أشعة الليزر لإخافة الطيور في حقول الذرة الحلوة والمحاصيل الأخرى.
يقوم نظام فزاعة الليزر الذي تم اختباره في الشمال الشرقي من أوروبا بنشر شعاع ليزر أخضر متحرك باستمرار لتخويف الطيور من الحقولـ حيث تغطي وحدات URI ما يصل إلى تسعة أفدنة.