لئن باعدتني السنوات الماضية عن بغداد شكلاً، فإنها لم تقو على محو مكانتها في النفس قط، فعاصمة المنصور التي زرتها مراراً رأيتها، عشتها بحالات كثيرة، فكان الفرح حيناً يتناوب مع الحزن أحياناً، كما التعب يأتي بعده عطاء وتقدم وازدهار.
عرفت بغداد بحالات متعددة، تحت الحصار، وفي الحرب، وبعدها، وفي حواجزها الصعبة كما في ليلها المضيء ولياليها التي لا تنام، وكذلك في ضعفها وحزنها وبعض ظلام يخيم على أحيائها، فيتألم المتنبي وينكسر قلب أبي نواس، فيما يبقى المنصور يواسي حفيده الرشيد مؤكداً قيام بغداد وشعب العراق من قاع الحصار والضعف إلى قمة القوة والازدهار.
وهكذا كان حال المدينة الحية المستمرة، فهي اليوم تستمر في نهوضها نافضة عن نهرها الخالد غبار سنوات الحزن والقهر، رافعة منشآتها في الجهات الأربع وناشرة بينها عبق عطرها التاريخي، ففي كل ناحية بناء شامخ وفي كل شارع تعبيد ناجح ومريح وفق هندسة خاصة لا يدرك كنهها إلا من عرف جوهر وحقيقة المدن الحية كدمشق والقاهرة وبغداد وسواها التي تختزل خبرات العالم وتعطيها دفعة واحدة كما العنقاء تخرج من تحت رماد السنين.
واليوم إذ تستقبل بغداد وفود الصحفيين من أصقاع الأرض كلها فإنها تستجمع ثقافات العالم وحضارات الأمم والشعوب وتقدمها في قالب العطاء والتفاعل الموحد، وتعطي لنقابة صحفيي العراق دورها الرياضي في تأطير العمل النقابي المشترك للصحفيين العرب وجمعهم حول المشتركات الحضارية وتثبيت جذور التواصل فيما بينهم.
وتبقى بغداد أصيلة في جميع حالاتها تعطي الدروس الخصوصية لعواصم العالم، مؤكدة أنها أنشئت بإرادة ذاتية لتكون داراً للسلام والمحبة والعلوم والمعارف، وهي اليوم تتابع ما بدأته مقدمة العبرة تلو الأخرى عن تجارب العطاء والخير.