كانت غزوات الإسكندر الأكبر والذي يطلق عليه أيضاً (الكبير والمقدوني والثالث). إحدى أوسع الفتوحات في التاريخ القديم، جهدت النصوص التاريخية الغربية على تمييزه عن باقي الغزاة والفاتحين بدعوى أنه تلقى تعليمه على يد الفيلسوف أرسطو، وأنه سعى بناءً على ذلك إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من المزج والتوازن بين الشعوب والحضارات.
في حين يتم تجاهل أن الفيلسوف الذي ترك الأثر الأهم في الإسكندر لم يكن أرسطو وإنما ايسوقراطس، الذي حث زعماء اليونان على مدى نصف قرن للتوقف عن الصراعات التقليدية بين المدن- الدول. والتوحد في حرب قومية خارجية بدعوى سمو الحضارة الإغريقية على ما عداها، وبهذا وفر للإسكندر الدافع الأول لغزو الشرق.
كما يتم التغاضي عن واقعتين هامتين في هذا الصراع، الأولى: أنه حين نزل الإسكندر في عمريت على الساحل السوري تسلم رسالة من ملك فارس (داريوس الثالث)، يعرض عليه فيها تحالفاً وصداقة لكنه رفض هذا العرض. وتكرر الأمر خلال حصار صور، حين تلقى رسالة ثانية من داريوس يعرض فيها محالفته والتنازل له عن جميع مقاطعات الإمبراطورية غرب الفرات، ودفع فدية كبيرة، وتزويجه بابنته مقابل إنهاء الحرب، ولكن الإسكندر رفض مرة أخرى. وأصرّعلى أنه لا يمكن أن يكون هناك سوى ملك واحد في آسيا.
وتكرر الأمر ذاته مع مدينة صور التي سعت إلى عقد معاهدة مع الإسكندر. لكن الإسكندر الذي كان يريد السيطرة المطلقة رفض العرض وقام بمحاصرة المدينة مدة سبعة أشهر تعرض فيها لمقاومة أسطورية، ابتكر فيها الصوريون أساليب بارعة، وقاتلوا ببسالة لآخر رمق حتى بعد نجاح الإسكندر من اختراق أسوار مدينتهم. ويذكر المؤرخ الصقلي ثيودوروس أنه بعد اقتحام المقدونيين لصور من الطريق الذي مدوه اليها من البر، ومن سفنهم التي تحاصرها من البحر، قاتل الصوريون بكل قواهم وسقط منهم في هذا الصراع غير المتكافئ أكثر من ثمانية آلاف، وأسر ما يقرب من ثلاثين ألفاً من النساء والأطفال والرجال الذين بيعوا في أسواق النخاسة. ومن ثم واجه الإسكندر مقاومة غزة ولكنّها سقطت بعد شهرين وقتل عدداً كبيراً من أهلها وأسر الباقين.
تسترسل الروايات الغربية في الحديث عن الوقائع المتفرقة التي ترسم صورة الاسكندر الحضاري، وخاصة ما فعله إثر العثور على داريوس الثالث مقتولاً (كما تقول إحدى الروايات). إذ أمربأن تدفن جثة غريمه باحتفال ملكي مهيب. ومن ثم لاحق قاتله (بسوس) طويلاً ولما ظفر به أمر بإعدامه بطريقة وحشية. بسوس الذي اعتبره الاسكندر قاتلاً كان أحد ضبّاط داريوس القلائل الذين رافقوه حتى النهاية، ومن ثم أعلن نفسه خليفة له، واتجه إلى آسيا الوسطى ليُحضر حملة عسكرية ضد الإسكندر. وفجأة تحول الإسكندر من عدو شرس لداريوس، إلى مطالب بدمه. وبهذه الحجة تحوّلت ملاحقته للقاتل المزعوم إلى حملة واسعة النطاق في آسيا الوسطى، احتل فيها الإسكندر مدنها الواحدة تلو الأخرى، فلما تمكن من بسوس أمر بتعذيبه بوحشية حتى الموت، إلا أنه مع ذلك استمر بغزو الهند، وراح يعد العدة لغزو شبه الجزيرة العربية. ولم يقعده عن طموحاته سوى إصابته بمرض خطير أدى إلى موته بعد حروب دموية استمرت اثنتي عشرة سنة.
بعد أكثر من ألفين وخمسين سنة ما زال في الغرب من يُجهِد النصوص واللوحات والأفلام لتقدم صورة بيضاء عن أحد أكبر مشعلي الحروب في التاريخ. لمجرد أنه جاء من الغرب.