الملحق الثقافي- أحمد بوبس:
كثيراً ما يكتب الكتاب والصحفيون عن تاريخ الصحافة السورية، فيركزون فيها على الصحافة في دمشق وحلب، باعتبارهما مهدي بدايات الصحافة السورية، ولكن هناك بدايات مبكرة أخرى في بعض المدن لا تنال ذلك الاهتمام الذي تستحقه.
أقول هذا وأنا أقلب عددين من مجلة تعتبر من المجلات السورية الرائدة ليس في اللاذقية وحسب بل حتى على المستوى السوري والعربي، بشموليتها وتبويبها والمواضيع التي نشرتها وزمن ظهورها، فقد صدرت ما بين عامي 1925 و1926.. تلك هي مجلة (النور) اللاذقانية، فما هي حكايتها؟
ظهر في اللاذقية شاب طموح اسمه نصر الله طليع، تتلمذ فيها على يد الشيخ ابراهيم منذر، وسافر في مطلع شبابه إلى مصر وعمل في الصحافة المصرية، منها جريدة (المقطم) لصاحبها اللبناني جرجي زيدان.. وفي عام 1921 عاد إلى اللاذقية، وتولى رئاسة تحرير جريدة (المنار) التي كان يُصدرها المطران أرسانيوس حداد.
في عام 1925 التقى نصر الله طليع بجاد كومين الذي كان يمتلك مطبعة، فاتفقا على إصدار مجلة تحمل (اسم النور) يتولى نصر الله الجانب الصحفي فيها، فيكتب فيها ويتسلم المقالات والدراسات من أصحابها ويخرج المجلة، بينما يقوم جاد كومين بالإشراف على الجوانب الفنية المتعلقة بالطباعة. وكان نصر الله طليع صاحب الامتياز وتولى رئاسة تحرير المجلة، بينما تولى جاد كومين مدير إدارة المجلة.. وصدر العدد الأول منها في حزيران عام 1925، وكانت تصدر في منتصف كل شهر.
كانت المجلة ذات توجه فكر وثقافي عميقين، فاهتمت بنشر المقالات والدراسات في مختلف فروع المعرفة، وتولى الكتابة فيها كتاب كبار من اللاذقية وسورية بل والوطن العربي، فقد استطاعت بعمرها القصير أن تحقق سمعة طيبة.. وللأسف لم يتبق منها إلا عددين هما الأول والعاشر والأخير، ومن حسن حظي أني حصلت على نسخة من كل منهما، وسأسلط الضوء على المجلة من خلال هذين العددين.
جاء في افتتاحية العدد الأول بقلم رئيس التحرير نصر الله طليع وبعنوان (أخي القارئ) :
(بين يديك أضع أول عدد من «النور» التي وقفتها على خدمتك ما دمت فرداً من أفراد هذه الأمة التي أكتب لها وعنها، وأعمل في سبيلها باذلاً كل ما في وسعي من مقدرة وحول، فإن راق لديك فإنما أنت تنظر إلى مرآة نفسك، وإن أعرضت عنه فابدِ لي سبب إعراضك، لعلك تُصلح شاذاً بي، وتقوِّم معوجاً من أمتك).
كانت المجلة – كما ذكرت – متنوعة الاهتمامات، فنشرت المقالات والدراسات الأدبية والعلمية والاجتماعية والسياسية، كما كانت تنشر النتاجات الأدبية للأدباء من شعر أو قصة.. وكانت تولي اهتماماً خاصاً للتعريف بأدباء وأعلام اللاذقية، ومن الأعلام الذين كتبت عنهم محمد سعيد الأزهري مؤرخ اللاذقية. وكان فيها باب ثابت عنوانه (خمائل الأفكار) مخصص لنشر النتاجات الشعرية، لشعراء اللاذقية أولاً، وللشعراء السوريين والعرب ثانياً.. ومن شعراء اللاذقية الذين نشرت لهم محمد رشاد رويحة وبدوي الجبل وعبد الكريم الخيّر وأديب فرحات ومن الشعراء العرب حليم دموس والأخطل الصغير وإلياس فرحات.
إذا ذهبنا إلى العددين المتوفرين من المجلة، وإلى العدد الأول بالتحديد الصادر في حزيران 1925، نقرأ على غلافه العبارات التالية (مجلة علمية أدبية – صلة الأدباء – رابطة المفكرين – مجال الأقلام الطليقة – رمز النهضة الأدبية – نصيرة الحق – عضد الضعيف – نور ونار)، وكان ثمن العدد ليرتين سوريتين، وهو ثمن مرتفع إذا قيس بالجرائد والمجلات الأخرى، فقد كان ثمن أية مجلة أو جريدة بالقروش وليس بالليرات.
وكان ترقيم المجلة يجري وكأن كل عدد هو جزء من كتاب، فيبدأ ترقيم العدد الجديد حيث انتهى ترقيم العدد الذي سبقه.. فالعدد الأول ينتهي بالصفحة رقم (82)، ويبدأ العدد الثاني برقم الصفحة (83)، ونجد العدد العاشر والأخير يبدأ برقم الصفحة (701) وينتهي بالرقم (834)، وبذلك يظهر كل عدد من المجلة وكأنه جزء من كتاب مؤلف من عشرة أجزاء، وعدد صفحات كل عدد نحو ثمانين صفحة.
من مواد العدد الأول قصيدة للشاعر اللاذقاني محمد رشاد رويحة، مطلعها :
نرجو ونأمل والمنيّة تسبق
ونُعِدُّ أسباب النعيم فنخفق
وقصيدة أخرى للشاعر المصري حليم دموس، مطلعها :
تُسائلني والبحر عبَّ عبابهُ
متى الهاجرُ النائي يكون إيابه
وقصيدة ثالثة لبدوي الجبل، مطلعها :
غيَّض الدهر أدمعي
واحنيني إلى البكاء
وقدّم نصر الله طليع للقصيدة بالعبارة التالية (محمد أفندي سليمان أو «بدوي الجبل» شاعربفطرته، تذوب روحه في أبياته، فيأتي بالمبدع المطرب وبالجديد الطلي، فهو الشاعر الفتى وفتى الشعر).. كما تضمن العدد الأول الجزء الأول من رواية (الميدالية الذهبية) للروائي الفرنسي «لويس دي سرمان» وترجمها عن الفرنسية جاد كومين، ونشرت على أجزاء في أعداد المجلة التالية.
ومن مواد العدد العاشر والأخير دراسة جميلة بعنوان (التأريخ الشعري).. وهذا العلم كان شائعاً منذ زمن بعيد، ويقوم على كتابة تاريخ آبدة من الأوابد كالجوامع وغيرها بأبيات شعرية، إذا حسبت حروفها بطريقة معينة، عرفنا تاريخ بناء الآبدة. وضم العدد أيضاً قصة (أنا والطائر الحزين) للقاص أديب مهنا، وضم العدد قصيدة لرئيس التحرير ألقاها في حفل تأبين فقيد الأدب والصحافة في بيروت سليم سركيس، مطلعها :
فُجعَ البيان بألمعيِّ زمانه
بالبلبل الشادي على أفنانه
بفتى مجالسه ببهجة أنسها
بمُفَرِّجِ الكرُبات عن إخوانه
ومن مواد المجلة في أعدادها الأخرى (تطاحن الطبقات) والمقصود صراع الطبقات في المفهوم الحالي.. وفيها شرح مهم لأهمية صراع الطبقات في النظام الاشتراكي.
ومن الملفت للنظر في هذا العدد مقالة في باب (تطور المجتمع)، حملت عنوان (الاشتراكية)،كتبها جورج حلبي.. ولدى قراءتي للدراسة لمست مدى تعمق الكاتب في الموضوع رغم أنه لم يمض على قيام الثورة الشيوعية في روسيا إلا سنوات قليلة. وتناولت الدراسة مفهوم الاشتراكية وتاريخها وأهميتها وتعاليمها ومبادئها. وتخللت المقالات والدراسات صفحات من المعلومات العامة الطريفة والمفيدة.
ويبقى السؤال…لماذا توقفت المجلة بعد صدور العدد العاشر؟..مع أنها كانت على سوية ثقافية ومهنية عالية، ويمكن مقارنتها بالمجلات الثقافية الكبير كالمعرفة السورية والرسالة المصرية لأحمد حسن الزيات والعربي الكويتية.. بحثْتُ في صفحات العدد الأخير، علي أجد أية إشارة إلى نيتها في التوقف عن الصدور فلم أجد، بل كل ما فيها يشير إلى استمرارها.
العدد 1151 – 11-7-2023