يروي عدنان بدر حلو ، الصحفي السوري ابن حلب الشهباء في كتابه ( مطار الثورة، في ظل غسان كنفاني) حادثة طريفة وغريبة ومستغربة في الوقت ذاته، فقد كان غسان كنفاني قريباً جداً من غرفة عمليات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان وديع حداد يطلعه على الكثير من الأسرار وخطط العمليات المستقبلية قبل تنفيذها، بل ويطلعه على موعد ومكان وتوقيت تلك العمليات، فقد كان وديع حداد، خلافاً للصورة المتوقعة، يوقن أن الإعلام سلاح مواز، وأن الصحافة يجب أن تكون قريبة من موقع القرار، حتى تكون على استعداد لكل عمل مستقبلي مدروس باعتبارها على معرفة مسبقة بالحوادث والعمليات قبل وقوعها ، وهنا فإن وديعاً ذاته من كان خلف شراء امتياز مجلة (الهدف ) التي كان يملكها الصحفي اللبناني زهير عسيران لقاء تسعين ألف ليرة، بعد مداولات وخلافات وجهات نظر انتهت بالموافقة تعويضاً عن خسارة منبر ( الحرية) بسبب الانشقاق.
وباعتبار أن غسان كنفاني كان يعرف توقيت تنفيذ عمليات اختطاف الطائرات قبل حصولها، فقد كانت لديه الرغبة بتحقيق حلم زميل مصور أرمني يعمل لدى وكالة أسوشيتد برس في مرافقة إحدى تلك الطائرات وتسجيل مراحل الخطف كاملة ومتابعة أحداثها ورصد مواقف الخاطفين والمخطوفين ومشاعرهم، وتقديمها لوكالة الأنباء الأميركية التي يعمل لها.
وهنا يؤكد عدنان بدر حلو بشهادته المباشرة أن غسان كنفاني كان يرجو تحقيق تلك الأمنية للمصور آغوب الذي خذلته الفرصة لأنه كان يقضي إجازته السنوية في كندا، وإلا لكان غسان سهل له الصعود على متن إحدى الطائرات المستهدفة وتحقيق رغبته تلك.
ولدى استغراب محدثه عن الثقة الممنوحة لموظف لدى وكالة أنباء أميركية، كان رأي كنفاني يمثل موقفاً ثابتاً من مهنة الصحافة ذاتها، ودور المخلصين لها من أبنائها، فهو بالتأكيد كان على ثقة أن آغوب المصور الصحفي المحترف إنما يريد أن يخدم مهنته باحترافية وصدق ويعطيها بعضاً من روحه ونفسه وطبيعته، فهو الذي اعتاد على زيارة مكتب الهدف في بيروت وكان يردد تلك الرغبة مقترحاً على غسان كنفاني اقتراح سفره في رحلات مختلفة في عملية تمويه ليكون آغوب وحده على متن الطائرة التي يتم اختطافها ويضمن عدم إفشاء السر، فيما كان غسان على ثقة مطلقة أن ذلك المصور جاد وصادق لأنه يريد خوض تجربة تدخله تاريخ المهنة كواحد من أبطالها وبناتها.
وبعيداً أو متابعة لهذه الحادثة ولإصرار صاحب المشروع على وجود قناة اتصال مع العالم تحمل وجهة نظره وتدافع عنها وتروج وتدعم تلك المواقف، فإننا نعرف الكثير من الحوادث والحكايات التي تدعم المشروع الإعلامي وتتبنى خطة عمل دقيقة في ظرف دقيق لتكون المخرجات متوافقة مع الأهداف، وبالقدر الذي يتم فيه تقديم هذه الفكرة ببساطة ويسر، فإن تنفيذها العملي والعملياتي إنما هو أمر معقد ومضن وصعب التحقق إلا باكتساب خبرات ومعارف وكوادر مؤمنة تمتلك تلك المزايا والصفات العالية، فتأتي النتائج وفق الصورة المرسومة، وإلا فإن الخسارة وحصاد الهشيم يكون بالانتظار، ليبقى الإعلام وفق هذه الرؤية ميدان المواجهة الناعمة، تلك النعومة المشابهة لحد الشفرة أو السيف والقادمة من نعومة الرخام القاسي .. وهنا العبرة !.