جودت الهاشمي…المربي الرائد

الملحق الثقافي – أحمد بوبس:

هل خطر ببال أحدنا وهو يمر من أمام ثانوية جودت الهاشمي مقابل حديقة الجلاء، أن يسأل من هو هذا الرجل الذي أطلق اسمه على أكبر وأقدم مدرسة ثانوية في دمشق؟..جودت الهاشمي هو المربي الرائد الذي له الفضل في تأسيس التعليم الثانوي في سورية بشكل علمي، من خلال هذه الثانوية التي تحمل اسمه.
ولد جودة الهاشمي في دمشق عام 1887 لأسرة فقيرة، لا يملك ربها سوى قوت يومه.. ألحقه والده بكتّاب الشيخ سعيد الشريف، إذ لم يكن في دمشق وقتها مدارس نظامية.. وأظهر الطالب جودت نباهة وتفوقاً في دراسته ولما استوفى كل ما يمكن أن يتعلمه في الكتّاب، اقترح الشيخ سعيد على والده أن يرسله إلى استنبول ليكمل دراسته، لكن الوالد لم يكن قادراً على ذلك، فاصطحبه الشيخ سعيد معه إلى استنبول، وألحقه بالدراسة الداخلية بدار الشفقة عام 1899، وهي دار خيرية مخصصة لتدريس أبناء الفقراء.. وفي المدرسة تفوق جودة الهاشمي على جميع طلاب المدرسة، فأوفد إلى فرنسا ليكمل دراسته الجامعية وتخصص بالرياضيات.. وبعد انتهائه من دراسته الجامعية تم تعيينه مدرساً للرياضيات في بيروت ثم في القدس.
وبعد سقوط الاحتلال العثماني وقيام الثورة العربية ومجيء الفيصلي مكانه في دمشق عاد إليها، وتم تعيينه مدرساً للرياضيات في مكتب عنبر، وهو الثانوية الوحيدة في دمشق.. وما لبث أن تولى مهام مدير مكتب عنبر إضافة إلى تدريسه الرياضيات فيه.
هال جودت الهاشمي أن يرى الرياضيات يجري تدريسها باللغة الفرنسية التي فرضتها سلطات الاحتلال الفرنسي، بحجة أن اللغة العربية لا تملك القدرة على إيجاد المصطلحات الرياضية، فعكف على دراسة العلوم الرياضية التي أبدعها العلماء العرب والمصطلحات الرياضية التي وضعوها، فاستقى منها ما وجده مناسباً، وعرّب ما استُحْدِثَ من مصطلحات، ووضع مجموعة من كتب الرياضيات لجميع الصفوف المتوسطة (الإعدادية) والثانوية.. فكانت هذه الكتب الأساس لمناهج الرياضيات في سورية لسنوات كثيرة.
كان طموح جودت الهاشمي أن يرى في دمشق ثانوية نموذجية على غرار ما شاهده في فرنسا، يكون بناؤها مصمماً ليكون مدرسة.. واستطاع إقناع الحكومة السورية بذلك آنذاك، وتحقق حلمه فأنشا مبنى مدرسة التجهيز المطلة على حديقة الجلاء عام 1931.. وتم تعيينه مديراً لها إضافة إلى تدريسه الرياضيات.. واختار هو تسميتها (مدرسة التجهيز)، والمقصود فيها تجهيز وتهيئة الطلاب لدخول الجامعة، وهي تسمية أدق من (الثانوية) التي أصبحت مدارسنا تُعرف بها.
خلال إدارته لمدرسة التجهيز كان وافر الوقار، قليل الكلام.. وكان إذا دخل الصف ساد بين الطلاب صمت شامل، فلا حركة ولا همسة، كانت هيبته كفيلة وحدها بفرض النظام في الصف والمدرسة بكاملها.. وفي الوقت نفسه كان محبوباً من الطلاب، لم يضطر يوماً إلى فرض عقوبة بحق أي طالب.. كانت نتائج العام الدراسي هي المكافأة والعقوبة، بالنجاح أو الرسوب.
خلال إدارته لمدرسة التجهيز كان حريصاً على تطبيق الأنظمة والقوانين، ولا يقبل أي استثناءات من أي كان.. من ذلك أنه كان في المدرسة قسم داخلي لطلاب المرحلة الثانوية، يخصص لطلاب المناطق النائية التي لا توجد فيها ثانويات.. وكان يدخله من يحصل على علامات محددة في الشهادة المتوسطة (الإعدادية)، أما من علاماته أقل فيتكفل أهله بتأمين سكن له.. ومرة جاءه أحد زعماء العشائر في الجزيرة، يريد تسجيل ابنه في القسم الداخلي، دون أن يملك مجموع العلامات المطلوب لذلك، فرفض المدير تسجيله، فذهب إلى الرئيس شكري القوتلي، وطلب منه كتاب توصية لجودة الهاشمي، وذهب به إليه.. فما كان من المدير إلا أن رد إليه كتاب التوصية، وقال له (ولو أتيت بكتاب توصية ابنك لا تنطبق عليه الشروط ورفض تسجيله).. فذهب زعيم العشيرة ثانية إلى الرئيس شكري القوتلي، وقال له (شكري بك كلمتك غير مسموعة عند جودت الهاشمي). فسأله الرئيس (لماذا؟). فأجابه (ولو جئت بتوصية من رئيس الجمهورية، ابنك لا تنطبق عليه شروط السكن في المدرسة). فأجابه الرئيس (إذا كان ابنك لا تنطبق عليه شروط المدرسة، ما أفعل لك، هل أطلب مخالفة الأنظمه من أجل ابنك).
ونتيجة لنجاحه في إدارة مرسة التجهيز، أوكلت إليه وزارة المعارف (التربية اليوم)، مهام إدارية مختلفة، نجح فيها جميعها. فتولى منصب مدير التعليم الابتدائي، ثم مدير التعليم الثانوي، ثم أميناً عاماً لوزارة المعارف.
وإضافة إلى كونه مربياً فاضلاً كان جودت الهاشمي وطنياً.. فعندما تعرضت دمشق للعدوان الفرنسي في 29 أيار 1945، وتهدمت الكثير من البيوت، فتح أبواب المدرسة لإيواء أصحابها.. كما كان يستقبل فيها الثوار الجرحى ويؤمن علاجهم.. وعندما كان المغرب العربي يرزح تحت نير الاستعمار، أنشأ (جمعية الدفاع عن المغرب العربي).
وتكريماً لعطاءاته في المجالات التربوية، منحه الرئيس شكري القوتلي وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى عام 1959. وبعد رحيله عام 1955، أطلقت وزارة المعارف اسمه على المدرسة التي أسسها وتولى إدارتها، فتحول اسمها من (مدرسة التحهيز) إلى (ثانوية جودت الهاشمي).
العدد 1153 تاريخ: 1/8/2023

آخر الأخبار
تعزيز الشراكة لتمكين المرأة السورية.. اجتماع رفيع المستوى بين وزارة الطوارئ وهيئة الأمم المتحدة للمر... مناقشة تعزيز الاستقرار وسيادة القانون بدرعا  "الأوقاف" تعيد "كندي دمشق"إلى المؤسسة العامة للسينما  سوريا و"الإيسيسكو" تبحثان التعاون العلمي وحماية التراث الثقافي في سوريا  الاقتصاد تسمح باستمرار استيراد الجلديات وفق شروط "فسحة أمل" بدرعا ترسم البسمة على وجوه الأطفال المهجرين   عشائر عرب السويداء:  نحن أصحاب الأرض و مكون أساسي في السويداء ولنا الحق بأي قرار يخص المحافظة  المبيدات الزراعية.. مخاطرها محتملة فهل تزول آثارها من الأغذية عند غسلها؟ "العقاري" على خُطا "التجاري" سباق في أسعار السلع مع استمرار تصاعد سعر الصرف "الموازي" النباتات العطرية .. بين متطلبات الازدهار وحاجة التسويق 566 طن حليب إنتاج مبقرة فديو باللاذقية.. والإنتاج بأعلى مستوياته أولمبي كرتنا يواصل تحضيراته بمعسكر خارجي ومواجهات ودية حل فعال للحد من مضاربات الصرافة.. مصرفي : ضبط السوق بتجسير الهوة بين السعرين رسمياً المواس باقٍ مع الشرطة الرئيس الشرع يستقبل البطريرك يازجي .. تأكيد على ترسيخ أواصر المواطنة والتآخي شركات التأمين .. الكفاءة المفقودة  ! سامر العش لـ"الثورة": نحن أمام فرصة تاريخية لتفعيل حقيقي  للقطا... "ممر زنغزور".. وإعادة  رسم الخرائط في القوقاز الإنتاج الزراعي .. مشكلات "بالجملة " تبحث عن حلول  وتدخلات الحكومة خجولة ! أكرم عفيف لـ"الثورة": يحت... قبل خسارة صناعتنا.. كيف نستعيد أسواقنا التصديرية؟