روايات، وقصص منقوصة لم يكملها أصحابها فظلت غير مكتملة، وليس الموت وحده ما حال بينهم وبين إتمامها إذ قد تكون عدم رغبة أحدهم بأن يكملها لسبب ما لا يعرفه إلا هو. وكثير من الأدباء المشهورين عربياً، وعالمياً، لم يكملوا قصصهم، ورواياتهم ليعثر عليها من بعدهم مَنْ يعثر من الأبناء، أو الأصدقاء، أمثال: نجيب محفوظ، وغسان كنفاني، بورخيس، وتشارلز ديكنز، وهيرمان ميلفيل، وغيرهم كثر شرقاً وغرباً، وسواء أكانوا معاصرين، أم عبر عصور الأدب التي ولَّت.. ومنهم من أعدم تلك الأوراق غير المكتملة لسبب ما أيضاً كما فعل (فرانز كافكا) مع آخر أوراقه لتحترق كلماته مع ما تحمله من ومضات فكره.
وها أنا أمرُّ بتجربة الأبناء ممَنْ عثروا على عمل أدبي لم يكتمل وهي رواية (الدار الكبيرة) للأديبة (قمر كيلاني) لأقف حائرة أمامها أتساءل: ترى لماذا أمي لم تكمل روايتها التي ترصد فيها أحوالاً من دمشق القديمة في الفترة ما بين أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي؟.. والأدباء لاشك لديهم مبررات شتى لعدم إنجاز رواياتهم، أو أعمالهم السردية كاملة كما هو متوقع منهم، مبررات لا علاقة لها بإمكاناتهم الأدبية، ولا بموهبتهم الراسخة، وإنما هي تتفاوت بين الانسحاب، والتردد، وربما التراجع الداخلي بسبب ضغوط الحياة، وفقدان الطاقة اللازمة لإنجاز عمل أدبي، أو الحافز للاستمرارية، أو أنها الحيرة في بناء الهيكل الروائي إذا ما خفت الدافع للكتابة، ومعه العزيمة التي تشكلت منها البدايات ليفقدوا القدرة على مواصلة العمل الأدبي، واستكماله، أو أنه الشعور بالقلق من أن العمل النهائي قد لا يلبي التوقع المرجو منه ليتجنبوا بالتالي المغامرة، والمخاطرة بأسمائهم بما تحمله من رصيد كبير لدى القرّاء تشكل على مدى سنين العمر.. أو أنهم قد يغيّرون من توجهاتهم نحو جنس أدبي لآخر غيره، أو لمسار آخر في الحياة ذاتها.
كذلك فإن تأجيل الكتابة، وتقليل الوقت المخصص لها قد يُفقد الكاتب الانتظام في عملية الكتابة، ليجد فيما بعد صعوبة في العودة إلى الرواية بعد فترات طويلة من الانقطاع مما يتسبب بالتالي في تأخير إكمال الرواية، أو حتى في عدم إكمالها بشكل نهائي. وسواء أكانت مبرراتهم مقنعة، أو غير مقنعة فما علينا سوى أن نحترم قراراتهم، ونقدِّر الجهود التي بذلوها حتى وإن لم نرَ النص الأدبي كاملاً.
إلا أن هذه القصص والروايات غير المنتهية ستظل مثار تساؤل لدى القرّاء من جهة، والنقّاد من جهة أخرى سواء نُشرت بعد رحيل أصحابها، أم ظل أمرها في نطاق الحديث عنها فقط. وفي حال نشرها فإن أحداثها، ومصائر أبطالها ستظل لغزاً يحيّر القارئ وهو يبحث عن الإجابات التي تنسجم مع سياق المتن الروائي ولا تفسده، شأنها شأن القصة ذات النهاية المفتوحة التي تحتمل نهاياتٍ عدة. كما أنها ستظل جزءاً لا يتجزأ من الأدب، ومصدراً للاهتمام والتحليل من قِبل المهتمين، والنقّاد بما تركه الكاتب من مؤشرات حول ما كان يخطط له في النهاية، وانطلاقاً من سؤال بسيط: ترى ما هي النهايات غير المتوقعة التي كانت تسطع في ذهن الكاتب؟
هذا على عكس مَنْ كتبوا أعمالاً أدبية رائدة في فترة زمنية قصيرة، ولعلها الحماسة في وقتها، أو استيلاء الفكرة على مبدعها ومحاصرتها له ما دفعه لأن يفعل، وهذا بالتالي لا ينتقص من قيمتها الأدبية إذا ما اكتملت عناصرها الفنية، والكاتب المخضرم لا يعجزه ذلك.
وفي النهاية، يمكن القول إن الأعمال الأدبية غير المنتهية ستظل تجذب إليها وهي تثير الاهتمام، والتحليلات النقدية، كما فضول القارئ وتساؤلاته، وتجعله يتخيل كل الوقت ما كان يخطط له الكاتب في نهاية قصته.
ولربما كانت قصصهم التي لم تكتمل في الحياة نفسها سبباً حقيقياً وراء ما لم يكملوه على الورق.
* * *