الملحق الثقافي- أيمن المراد:
لقد أصبحت الحاجة الملحة للأشخاص المبتكرين والمبدعين بأعداد متزايدة ضرورة لا بد منها مع التطور المتسارع للمعرفة في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والصناعية والعلمية وغيرها، كما أن التطور التكنولوجي والتقدم التقني اللذين وصلت إليهما البشرية والذكاء الاصطناعي دفع القائمين على مسؤولية الدول إلى رعاية كل من هو مبتكر وإبداعي لاكتشاف الموهبة واستثمارها كل حسب حاجته.
فالإبداع وسيلة فعالة لتقليص الفجوة العلمية بين الأمم، وهو عامل حاسم في تقدم المجتمعات، وقد أشار عالم النفس الإنكليزي روجرز 1972 في كتابه»نحو نظرية في الإبداع» إلى أهمية الإبداع والفرد المبدع حيث يقول: «في الوقت الذي تتقدم فيه المعرفة سواء كانت بناءة أو مدمرة في وثبات كبيرة إلى عصر ذري، يبدو أن التكيف الإبداعي هو الاحتمال الوحيد الذي يمكن الإنسان من أن يصبح متماشيًا مع التغير المتعدد الجوانب في العالم الذي نعيش فيه».
إن الإبداع لا يمكن دراسته دراسة علمية ومنظمة لهذا نجد أن فيلسوفًا مثل (كنت) يستنتج في كتابه «نقد الحكم» أن الإبداع عملية طبيعية تخلق قوانينها الخاصة، وأن فعل الإبداع يخضع لقوانين مصنعة، لا يمكن التنبؤ بها، ومن ثم فإنه لايمكن تعليم الإبداع تعليماً منظماً.
إن الإنسان المبدع يختلف نوعيًا عن غيره من البشر أي إنه من طبيعة مختلفة لا يمكن تحديدها، فقد شاع هذا الرأي عند بعض الفلاسفة اليونانيين والعرب بعد ذلك، من أن الإبداع (العبقرية)هبة مقدسة جاءت للعبقري من العالم الإلهي، إن الإنسان المبدع لا يشبه غيره من الناس لأنه ملهم من قوة عليا، ومطلع على كثير من الخفايا المقدسة.
وقد صاغ المفكرون تعريفات غامضة أحيان للإبداع، يمكن تعريف الإبداع بالإنجليزيّة( Creativity) على أنّه تحويل الأفكار الجديدة والخياليّة إلى حقيقة واقعيّة، ويتميّز الإبداع بالقدرة على إدراك العالم بطرق مبتكرة وجديدة، وإيجاد أنماط خفيّة، وصُنع روابط بين ظواهر لم تكن تبدو مرتبطة ببعضها بعضاً، والمساهمة في إيجاد الحلول خارج الصندوق، وبهذا فإنّ الإبداع يتضمّن عمليتين رئيسيتين هما التفكير ثمّ الإنتاج.
يعدّ الإبداع تفاعلاً لعدّة عوامل عقليّة وبيئيّة واجتماعيّة وشخصية، وينتج هذا التفاعل بحلول جديدة تمّ ابتكارها للمواقف العمليّة أو النظريّة في أيٍّ من المجالات العلميّة أو الحياتيّة، وما يميّز هذه المجالات هي الحداثة والأصالة والقيمة الاجتماعيّة المؤثّرة؛ فهي إحدى العمليّات التي تساعد الإنسان على الإحساس وإدراك المشكلة، ومواقع الضّعف، والبحث عن الحلول واختبار صحّتها، وإجراء تعديل على النتائج.
يهدف الإبداع أيضًا إلى ابتكار أفكار جديدة مفيدة ومقبولة اجتماعيّاً عند تطبيقها، كما تمكّن صاحبها من التوصّل به إلى أفكار جديدة واستعمالات غير مألوفة، وأن يمتلك مهارات تضمّ الطلاقة، والمرونة، والأصالة، والإسهاب، والحساسيّة للمشكلات، وإعادة تعريف المشكلة وإيضاحها، ويعدّ الإبداع إحدى العمليّات الّتي تؤدّي إلى تطوّر نتاجات تتّصف بالحداثة والجديّة من خلال تمويل أشياء في بيئة الإنسان، ويجب أن يستند إلى معايير ومبادئ وضعها الإنسان.
عوامل الإبداع
يعتقد علماء النفس والكثير من الفلاسفة أن الإبداع مشروط بعوامل نفسية عقلية، فالإبداع يرجع إلى ملكة ذاتية فليس بإمكان أي شخص أن يبدع، فالمبدع يملك ذكاء خارقاً وقدرة على الإقناع، فالفيلسوف سقراط استطاع أن يقلب موازين الفكر الفلسفي من خلال منهج السخرية والتهكم، فأبطل آراء السوفسطائيين ومغالطاتهم، كما أن الإبداع يحتاج إلى الإلهام إذ يظهر الحل بصورة حدسية، فالعالم أرخميدس اكتشف قانون الضغط في حمام منزله والعالم إسحاق نيوتن اكتشف الجاذبية بإلهام من سقوط التفاحة. إذ يقول «إني لأضع موضوع بحثي نصب عيني وأنتظر حتى يلمع الإشراق علي شيئًا فشيئًا لينقلب إلي نورًا جليًا» كما أن للرغبة والميل دوراً في عملية الإبداع.
إضافة إلى الخبرة التي تشكل عاملاً مهماً وذلك بتوظيف الذاكرة، فالتاريخ يروي قصص أشخاص كانوا يملكون ذاكرة خارقة خاصة في حفظ القرآن والأحاديث النبوية الشريفة كالإمام الشافعي وأبو هريرة، وغير بعيد عن ذلك أكد علماء النفس أن الحالة النفسية للمبدع تسهم بقدر كبير في عملية الإبداع، فالرسام الشاعر المغني كلهم انطلقوا من حالة نفسية معينة، قد يكون غضب فرح، حزن، كره أو حب، فحزن الخنساء على أخيها «صخر» دفعها إلى نظم قصائد خالدة في الرثاء ويقول برغسون»إن العظماء الذين يتخيلون الفروض والأبطال القديسون الذين يبدعون المفاهيم الأخلاقية، لا يبدعونها في حالة جمود الدم وإنما يبدعونها في جو حماسي وتيار ديناميكي تتلاطم فيه الأفكار» لذا ربط فرويد بين الإبداع والحالة اللاشعورية يقول»الإبداع تعبير مهذب نابع من غرائز جنسية مكبوتة» أما تلميذه أدلر فقد اعتبر أن الإبداع ناتج عن الشعور بالنقص.
ولا يمكن أن يكون الإبداع دون صبر، فمن العلماء من أفنى حياته لأجل دراسة نظرية لذا يقال «طريق النجاح معبد بالفشل» فالعالم غاليلي قتل بسبب نظريته حول كروية الأرض، ولا يمكن الحديث عن العوامل الذاتية دون الحديث عن عامل الوراثة، فأبناء العباقرة عباقرة وكمثال على ذلك أسرة باخ الألمانية التي أنجبت أكثر من 40 موسيقياً.
على خلاف الرأي الأول يرى علماء الاجتماع أن عملية الإبداع تتجاوز العوامل النفسية إلى شروط اجتماعية بمعنى أن المجتمع هو الذي يعمل علة صقل موهبة المبدع وإمداده بمختلف الوسائل، فالإبداع ليس عملاً فردياً إذ يعتبر المجتمع شرطاً ضرورياً، ومن أهم هذه الشروط متطلبات المجتمع وحاجاته التي تدفع المبدع للتغيير يقول كارل ماركس»الحاجة أم الاختراع» ويقول باستور»إن الافكار الخصبة للعالم هي بنات الحاجة» فحاجة الإنسان إلى السفر دفعته إلى إبداع وسائل النقل على اختلاف أنواعها وحاجته إلى التواصل دفعته إلى اختراع وسائل الاتصال بمعنى أن المبدع لا يبدع بنفسه وإنما وفقاً لما تحدده حاجته من مجتمعه هذا من جهة، ومن جهة أخرى يحتضن المجتمع مبدعيه فيهيء الظروف المناسبة للمبدع التي تساعده على إخراج طاقته، فقد يكون الدعم مادياً كالمكتبات، قاعات الانترنت، المخابر المجهزة، الوسائل التكنولوجية. وقد يكون الدعم معنوياً كالتحفيز والمتابعة، وهذا ما يظهر جلياً في العلم، الفن الأدبي، الرياضة، فدولة مثل اليابان تحتضن المبدعين وتهتم بما تنتجه أفكارهم، فالعوامل الاجتماعية تظهر الكفاءات وتميز الأفراد، فالتفريق بين الدول المتقدمة والمتخلفة لا يكون إلا بالرجوع إلى إبداعات أفرادها.
الإبداع الفني
يرتبط الإبداع الفني بمشاعر وأحاسيس الفنان، كما يرتبط بإلهام الفنان وخياله وعاطفته، ولهذا يقال إن المبدع في مجال الفن يتميز بقدرته على التحليق بخياله في عالم اكتشاف أنواع جديدة من الآلات والمعدات الفنية بمختلف أنواعها ومجالاتها، ويظهر الإبداع الفني في عدة مجالات منها (الرسم، الموسيقا، المسرح، التمثيل، النحت وغيرها من الفنون)، ومن المبدعين في المجال الموسيقي بيتهوفن وموزرات اللذين قدما أعظم السيموفينيات الموسيقية على الرغم من الإعاقة السمعية.
الإبداع التكنولوجي
يعد الإبداع التكنولوجي الركيزة الأساسية التي تعتمد عليها المؤسسات الاقتصادية لمواجهة تحديات العصر، فهو يشمل تطوير منتج أو تقنية وتقديمها بطريقة مبتكرة، وهذا من شأنه أن يحسن جودة المنتجات، ومن ثم زيادة الاستهلاك لهذا المنتج، كما أن هذا النوع من الإبداع يتعلق بالمجالات الرقمية، كالحاسوب والهواتف النقالة ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها.
الإبداع اللغوي
يرتبط الإبداع اللغوي ارتباطاً وثيقاً باللغة العربية، فإن كنت مبدعاً لغوياً فهذا يعني إبداعك في شتى مجالات المعرفة، مثلاً إبداعك بالتكلم بلغة عربية فصحى صحيحة خالية من الأخطاء، أو على سبيل المثال امتلاكك موهبة الإلقاء والخطابة، أو الكتابة الشعرية، أو الكتابة النثرية بمختلف أنواعها من قصص وروايات وخواطر ومقالات، وبهذا نقول الإبداع اللغوي يشمل الإبداع التعبيري.
الإبداع القكري
إن الإبداع الفكري يمثل منفعة عظيمة للكل، فقد أسهمت في إرساء قيم مشتركة تتماشى مع المجتمع بشكل عام، حيث يصنع فينا تغييراً كُنا بحاجة إليه، وهذا ما قاد إلى حركات إنسانية جبارة تحمل تراثها وقيمها بالكثير من الإنجازات، وطبعًا لكل أمة مبدعوها، قال تعالى (وقل ربي زدني علماً) والعلم المبدع المفيد للمجتمع صدقة جارية إلى يوم القيامة.
ولأهمية الإبداع والمبدعين فقد تم إنشاء المركز الوطني للمتميزين في سورية لرعاية الطلبة المبدعين في المجالات العلمية، كما أن الأولمبياد العلمي الذي ترعاه الهيئة العامة للتميز والإبداع يسهم بدرجة كبيرة في اكتشاف الموهوبين والمبدعين لتتم رعايتهم والاهتمام بهم، فصقل الطاقات الشبابية ضمن إطار الإبداع الفكري والمجتمعي أداة لبناء السوري المبدع من أجل المستقبل وشباب الغد.
لذا علينا أن نكرم المبدعين من أبنائنا وبناتنا في شتى المجالات الإبداعية العسكرية والمدنية المجتمعية والثقافية والإعلامية لأنهم ذخر الوطن ونمائه وأمله.
العدد 1160 – 19-9-2023