مع ازدهار التقنيات الحديثة، واتساع المجال الذي دخلت إليه آلات الذكاء الصناعي بات كثير من الناس يعانون من هاجس فقد وظائفهم، أو تحولهم إلى أخرى غيرها، وهذا بدوره يتطلب تدريباً جديداً، وتعليماً، وخبرة يكتسبها المرء من مجال عمله الذي تمّ دفعه باتجاهه، وسنوات ممارسته له كفيلة بتشكيل هذه الخبرة التي تفوق أحياناً التدريب، والتعليم.
وإذا كانت هذه البدائل بحدّ ذاتها تشكّل تحدياً، أو مشكلة سيواجهها الناس مستقبلاً ،لاسيما إذا ما كانت الوظائف البديلة المتاحة لهم لا تتوافق وأمزجتهم العاطفية، أو قدراتهم الجسدية، والفكرية، في وقت يعلن فيه أحد مديري (مايكروسوفت) أن: (أكثر الوظائف المفتوحة في السنوات العشر المقبلة هي لحاملي شهاداتٍ في الفلسفة، والرياضيات)، فإن هذا لاشك سيربك سوق العمل الذي بدأت تظهر ملامح تغيّر طبيعته من حيث الطلب على مهارات، وتخصصات بعينها ليظهر هذا جلياً في السنوات الأخيرة خاصة بعد ازدهار منافذ العمل من خلال شبكة المعلومات وقد ساعدت جائحة كورونا عليه، أو أنها كانت سبباً مباشراً له.
فبينما حظيت التخصصات التقنية، والهندسية بشعبية كبيرة في السنوات الماضية، يبدو أن هناك تحولاً عنها سيأخذ دوره باتجاه التخصصات الأكاديمية الأخرى وهي الفلسفة، والرياضيات. وأحد الأسباب الرئيسية وراء هذا التحول هو التطوّر السريع للتكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي. فكلما تقدّمت التكنولوجيا زادت الحاجة إلى فهم أعمق للأسس الفلسفية، والمنطقية التي تقوم عليها. فمن يحمل شهادةً في الفلسفة يكون قادراً على التفكير بشكل منطقي، وتحليلي، ويعرف كيف يرصد الأخلاق، والقيم في تصميم النظم الذكية، والتكنولوجيا المستندة إلى الذكاء الاصطناعي.
أما حملة شهادات الرياضيات التي هي أساسية في عصر التقنيات الذكية فهم يلعبون دوراً حيوياً في تطوير النماذج الرياضية، والخوارزميات التي تستخدم في تعلم الآلة، وتحليل البيانات، للوصول بقدراتها إلى التفكير القادر على حل المشكلات المعقّدة. ومع تزايد استخدام التكنولوجيا، وتطورها، سيتطلب الأمر فهماً أعمق للتفكير الفلسفي، وللرياضيات لتحقيق النجاح الأمثل في هذا المجال.
وهذا لا يعني بالتالي أن التخصصات التقنية، والهندسية، والتي تحوّلت الأنظار عنها باتجاه آخر أنها باتت غير مطلوبة، أو أنه يمكن إنكار دورها، أو تجاهله بل ما زال لها دورها في المهارات المطلوبة إلا أن للطلب المتزايد على التخصصات الأخرى يجعل لها ميزة تنافسية قوية معها في سوق العمل.
ومن جهة أخرى فإن تقدّم الذكاء الاصطناعي باتجاه الوظائف التقليدية سيؤدي إلى إلغائها، فمن اعتاد الأعمال الإدارية، والمكتبية، سيجد نفسه عائماً في الفراغ إذا ما تخلى سوق العمل عن هذه المهنة، أو قلَّت حاجة الشركات إلى الموظفين المكتبيين الذين يقومون بمهام إدارية تقليدية مثل معالجة البيانات، وتنظيم الملفات، في وقت يستطيع فيه الذكاء الاصطناعي أن يقوم بتحليل البيانات، وإعداد التقارير بشكل أسرع، وأكثر دقة. وهذا أيضاً حال الصناعات في استخدامها لليد العاملة بينما الأتمتة الذكية يمكنها إنجاز المهام الصناعية بكفاءة أكبر تزيد من الإنتاجية، وتعمد إلى تقليل التكاليف. أما عالم المال، والمصارف، ومراكز خدمة العملاء فسيكون لكلٍ نصيب لا يستهان به من خدمات الآلات الذكية التي تقدّم الحلول الفورية، وتوفر التوصيات الاستثمارية، والخدمات المالية الآمنة، والفعّالة.
وعلى الرغم من أن هذه الوظائف وغيرها سوف تتأثر بالتطورات في مجال الذكاء الاصطناعي، إلا أن هذا لا يعني أن يفقد الناس فرصهم في العمل، أو أن معدلات البطالة سترتفع، بل كلّ ما في الأمر أنه سيتم استبدال الوظائف التقليدية بأخرى حديثة ربما لم تكن مألوفة، فالتقدّم التكنولوجي يفتح الأبواب واسعة أمام فرص عمل جديدة في مجالات جديدة لم تكن من قبل دراستها قائمة في مناهج المدارس الفنية، والجامعات، مادامت الحاجة مستمرة للابتكار، والتطوير، وهما بدورهما يسهمان في تعزيز الوظائف القائمة بالفعل عن طريق تمكين الموظفين من التركيز على المهام الأكثر تحدياً، وإبداعاً، وتفاعلاً مع التكنولوجيا بطرق سليمة، لتصبح الوظائف التي لم نكن نملكها متاحة لنا، بل ومن بين اختياراتنا الحرة في الرفض، أو القبول.