الملحق الثقافي- حبيب الإبراهيم:
بالرغم من أنّه (ديوان العرب) وسجل حافل لمختلف نواحي الحياة على مدار العصور، هو تجليات روحية تبعث مكنونات النفس الإنسانية ، هو رسم لا بالريشة والألوان، بل كما وصفه الشاعر نزار قباني (الرسم بالكلمات)..وبالرغم من أنه الأكثر شيوعاً وحضوراً والأكثر تقبلاً وتذوقاً بين الناس وبين المهتمين.. وبالرغم من أن المجموعات الشعرية والدواوين هي الأكثر بين الأجناس الأدبية طباعة في دور النشر والمؤسسات الثقافية المختلفة، والتي تتوجه للقارىء من خلال ما تقدمه من كتب وقصص وشعر و….. أخذ الشعر يتراجع في العقود الأخيرة على رأي الكثير من النقاد على حساب الرواية التي سحبت بساط الشهرة من تحت أقدام الشعر لتتركه في الدرجة الثانية من حيث عدد القراء والمهتمين والمتابعين، ويرى الكثير من النّقاد أنّ هذا التراجع يعود لأسباب عديدة ومتنوعة يأتي في مقدّمتها اعتماد الشعر على المجاز وضبابية الكلمات والتأويل في المعاني، حالة الغموض وصعوبة الفهم لدى الكثير من عامة الناس لما يُنشر من قصائد شعريّة أو نثريّة يغلب عليها عدم الوضوح، التكثيف والإدهاش و….وتالياً وجد هؤلاء ضالتهم في السرد والرواية والتي وجدوا فيها ما يلبي رغباتهم وطموحاتهم، ويتجلى ذلك في حالات الإقبال على شراء الروايات في معارض الكتب، وخاصة تلك التي تلامس هموم وأوجاع الناس، أو تهتم بقضايا الشباب. قلّة من الناس يتذوقون الشعر، تغمرهم السعادة وهم يقرؤون أو يستمعون لشاعرٍ مرهف، أو لشاعرة تمتلك أدواتها الشعرية من صورة وبيان ولغة ؟ لكن الأكثرية لا يجدون تلك المتعة ونراهم يعزفون عن القراءة أو المشاركة في نشاطات شعرية والدليل عدد الحضور والذي لا يتجاوز في أغلب الأحيان عدد أصابع اليد ؟! والسؤال الذي يمكن أن يُطرح ضمن هذا السياق: لماذا أفُل نجم الشعر وخفّ بريقه في مطلع الألفية الثالثة؟ لماذا غادر الشعراء صهوات جيادهم وتحول الكثير منهم إلى الرواية ؟ كثيرة هي الأسئلة التي تُطرح قي سياق التفسيرات والتحليلات لما حدث من صعود الرواية وتراجع الشعر أو غيره من الأجناس الأدبية، ولعل إجابة الدكتور جابر عصفور عن رأيه في كتابه (زمن الرواية) والذي أصدره عم ١٩٩٩ يقدم بعضاً من الإجابات عن تلك الأسئلة المتشابكة.. يقول الدكتور جابر عصفور: (عندما ألفت هذا الكتاب منذ سنوات طوال، وقلت: إننا نعيش زمن الرواية لم أكن أقصد إقصاء أو تجاهل كل فنون الأدب الأخرى، وهذا ما اعتقده البعض على سبيل الخطأ، فما كنت أقصده في هذا الكتاب ـ ومازلت مصراً عليه حتى الآن هو أنه بحكم الزمن أو العصر الذي نعيش فيه تغيرت تراتيب الفنون الأدبية بالنسبة لبعضها البعض، ومن ثم بعد أن كان الشعر هو ديوان العرب في فترة من الفترات الماضية، أصبح هناك إعادة لترتيب هذه الفنون حسب مستويات صعودها وهبوطها بين الفنون الأدبية وبعضها البعض، ومن هذا المنطلق أصبحت الرواية في زماننا تحتل المرتبة الأولى بينما تراجعت جميع الأنواع الأدبية الأخرى من دون أن يعني ذلك أي نيل أو إساءة لها أو التلميح بإقصائها عن الساحة فهذا غيروارد تماماً في رؤيتي ومقصد كتاباتي))، وبالرغم من الإصدارات العديدة والمتتالية لمجموعات شعرية أطلق عليها أصحابها اسم شعر، كما أطلقوا على أنفسهم شعراء، فإن بريق الشعر خف بريقه، وتضاءل الاهتمام به، وهذا يبدو جلياً فيما يسمى الكتب الإلكترونية أو ما ينشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتحوّله إلى فراخة للشعر والشعراء دونما حسيب أو رقيب، والذي يزداد عددهم كل يوم؟! هذه الأسباب دفعت بقوة للتوجه للرواية، والتي أصبحت الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً، وتحوّل العديد من الروايات إلى مسلسلات تلفزيونية وأفلام سينمائية مثل رواية بقايا صور، الشمس في يوم غائم للكاتب الكبير حنا مينا، إلى جانب رواياته الأخرى التي استمد أحداثها وشخصياتها من البيئات الفقيرة والمعدمة؟ إلى جانب البيئة البحرية التي كانت حاضرة وبقوة في رواية الشراع والعاصفة، المصابيح الزرق،الياطر،…. ويرى الكثير من النقاد أنّ كفة الإبداع الأكثر حضوراً وتميزاً من نصيب الرواية ، و التي اخذت تتسع وتنتشر بين الاوساط الشعبية في المجتمعات العربية والتي تتقاطع مشاكلها ومعاناتها، فوجدت في الرواية ضالتها فكثرت العناوين التي كتبها رواة كبار لهم حضورهم الأدبي والثقافي على مستوى الوطن العربي، مثل رواية: (وليمة لأعشاب البحر) للروائي الكبير الراحل حيدر حيدر، و(المغمورون ) للكاتب عبد السلام العجيلي، و(تاريخ العيون المطفأة، مدارات الشرق) لخيري الذهبي، والكاتب المبدع يستطيع أن يقول كل ما يريد من رؤى وأفكار و…من خلال الرواية بعكس الشعر فالشاعر يجد نفسه محاطاً بأسوار القصيدة التي لا يمكن أن يتجاوزها . ..
في حواري مع الأديبة الروائية توفيقة خضور إثر فوزها بالمركز الأول في جائزة الطّيب صالح العالمية للآداب في السودان عام ٢٠١٤ عن روايتها:(سأعيد إنجاب القمر) قالت: (الرواية هي الوعاء الأرحب الذي يضم داخل صدره الكبير جميع الفنون الأدبية ويستوعبها، فالرواية شجرة يمكن تطعيمها بالشعر والقصة القصيرة، ويمكن لجناحيها الوارفين احتضان فن الدراما والمسرح من دون أن تخسر خصوصيتها وملكاتها كفن أدبي يعتد بنفسه)، وحتى لا نظلم الشعر والشعراء ، فإنّ الكثير من الروايات التي لاقت نجاحاً وإقبالاً من دور النشر أو القراء يعود لاستخدام الكاتب اللغة الشعرية، أو ما يسمى بالسرد الشعري كروايات أحلام مستغانمي (الأسود يليق بك، ذاكرة الجسد، فوضى الحواس)، والتي حققت شهرة كبيرة استقطبت القارئ العربي وجذبته إلى صفوف الرواية بلا منازع، ويأتي وصف نجيب محفوض الحائز على جائزة نوبل العالمية للآداب الرواية (إنّها شعر الأزمنة الحديثة) ليؤكد ان الرواية هي من يتصدر المشهد الثقافي والأدبي من حيث الشهرة والإحتفاء والعدد والعناوين والمضامين، واليوم لا يغيب عن ذاكرة القراء الكثير من الرواة الذين أثروا في الحركة الأدبية على مستوى الوطن العربي أمثال عبد الرحمن منيف في (مدن الملح) والطيب صالح في (موسم الهجرة إلى الشمال) ونبيل سليمان في (تاريخ العيون المطفاة)وحسيب كيالي في (مكاتيب الغرام) ووليد إخلاصي في (شتاء البحر اليابس) وكوليت خوري في (كوابيس بيروت)وغادة السمان في (أحضان السيدة الجميلة) …والتي وصلت إلى العالمية وترجمت إلى لغات أخرى وحققت حضوراً مميزاً في المحافل الثقافية والأدبية، أخيراً يمكن القول: إن الكم الهائل مما ينشر من شعر سواء القصيدة التقليدية أو التفعيلة أو النثر أو الومضة أو ….أدى إلى تداخل وضبابية عند المتلقي وخاصة في الوقت الحالي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء الأزرق فابتعد القراء المهتمون عن هذه الفوضى العارمة إلى القراءة الهادئة المتأنية والتي وجدوها في الرواية الورقية والتي أصبحت قليلة إلى حد ما …
العدد 1161 – 3-10-2023