الخرس وأهمية الحوار 2/2

الملحق الثقافي-حسن ابراهيم أحمد:       

أصبح الأصدقاء يجتمعون أقل، وحين يجتمعون لا يتكلمون إلا عبر الأجهزة. كذلك الأهل، فالأسر مجتمعة يغرق كل فرد منها في متاهات جهازه، إلى جوار بعضهم أو في غرفهم المتلاصقة. وهذا من الكوارث التي يبدأ الزوجان بانغماس متدرج فيها عقب الأحاديث المتواصلة قبل الزواج. وتتحول الاجتماعات إلى شكل دون مضمون مفتقدة حيويتها والكثير من فوائدها، ويزيد الخرس الزوجي والخرس المنزلي أو الأسري والمجتمعي حدة واستحضاراً لكثير من الصعوبات المقتبسة من وسائل التواصل، ونخسر الأصدقاء، إلا ما تسوقه الأجهزة من صداقات ناقصة، لا روح ولا حميمية ترافق جلساتها.
هناك خرائب تحصل ومنغصات تزداد ومفاسد تعمم، مرافقة لكثير من الفوائد التي نحصل عليها عبر الأجهزة، خاصة عندما يكون الجهل أو ضعف الخبرة وافتقاد الدراية بأحوال المجتمعات وأفكار الناس وأساليب الغواية والتلاعب بالأفكار والعواطف من قبل من يمتهنون الخبث والتخابث. مضافة إلى المهارات في استخدام التكنولوجيا الحديثة.
لا نميل إلى أن توصف الثقافة بالتفاهة، أياً كان مجالها، فالثقافة تفرض احتراماً لمن ينخرط صادقاً بها. إنما نجد أنفسنا مندفعين للإشارة إلى وصف (سعيد بنكراد) الباحث المغربي لمواقع التواصل الاجتماعي بـ (مزبلة الثقافة) أو (مزبلة الأنترنت) بمعنى غير تحقيري وإن بدا مستخفاً.

يرتبط مفهوم الثقافة بما هو سامٍ ورفيع، وليس هذا تماماً ما يمكن أن يطرح على مواقع التواصل مما يود الناس طرحه من أخبار وأفكار، حول ما هو ذو قيمة عليا أو دنيا مما يودون التخلص منه دون حساب المردود، بالتالي فقد نجد التافه قد غلب، فاستحق الصفة التحقيرية، ويبدو أن لا قدرة على ضبط ذلك وفرض ما هو رفيع دون غيره على هذه الشاشات حيث يلقى الناس ما يودون التخلص منه.
نحن في عصر المجتمع التداولي، حيث يتداول الناس على مساحة العالم بما يشاؤون من أفكار دون القدرة على منع ذلك، ما جعل العالم في حالة انفتاح تحقيقاً للمقولة الزائفة (العالم قرية واحدة) دون أن يكون كذلك، فليس من يموت من الجوع ابن القرية التي يموت أبناؤها من التخمة، ولا الفلسطيني ابن القرية التي ينتمي إليها الصهيوني، ولا المواطن الصالح ابن قرية الإرهابي القاتل، ولا المنهوب ابن قرية من ينهبونه من الفاسدين، ولا المنتهكة حقوقه ابناً لقرية الامبرياليين الذين يتحكمون بمصيره..الخ.
هنا نتوقف على أحد الجوانب السلبية للتكنولوجية الحديثة، وما تجلبه من مفاسد وأضرار وأخطار، حيث يغيب الحوار المباشر ويعم الخرس في بلاد يحتاج أبناؤها (العائلات، العشائر، القبائل، المذاهب، الطوائف… وجميع أشكال الأهل) إلى الانتقال من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني الذي يسبق المرور فيه والتشبع بقيمه، ذاك الذي وصفناه بالمجتمع التداولي الذي يعتبر الانتقال إليه قبل المرور الكافي والتشبع بقيم المدنية كارثة تضع التكنولوجيا الحديثة في خدمة التخلف، ولذلك أخطاره الجسيمة، لأن الثقافة الوشائجية، ثقافة العصبيات والشهوات المنحطة تكون مدمرة حين تعممها وتخدمها الشاشات.
القضية برسم الحوار ومدى استثماره إيجابياً، وخاصة بشكله المباشر المعبر عن قبول الآخر بشكل أفضل، فلا ندير القفا، ونغيّب قسمات الوجه ونظرات العيون ثم نقول إننا نتحاور، وما لم يتأسس الحوار في المواقع الاجتماعية حول جميع القضايا مباشرة انطلاقاً من أحوال الأسر وتفاهم الأزواج والأبناء نابذين الخلافات، لن تتعلم الأجيال كيف تستثمر الإمكانات المستحدثة، وتتجنب الأخطار.
من أرفع وأجلّ الآداب والفنون الرفيعة تلك التي تعلم ويتعلم الناس منها كيف يتخلصون من الحواف القاطعة والرؤوس المدببة، أي كيف يتلاقون عبر ما تشيعه من تهذيب للنفوس، سواء أكانت شعراً أم موسيقا أم مسرحاً أم قصصاً وروايات.. الخ، بل ربما تكون فلسفة وفكراً، وكلها تعتمد الحوار في مشاريع إيصال المعنى، وهذه ليست ليسكت الناس عنها ويتلقون ما تقدمه، بل ليتحاوروا وليتعلموا الحوار منها فيما يغني الحياة ويجعلها أجمل، بما تعممه من أساليب، ولا عدو لذلك أشرس من الخرس.
علينا ألا نسأل عما يعصف بحياة الأجيال عندما نتجاهل الواجبات في تربيتها، ولعل الخرس الزوجي المنزلي الاجتماعي، أو أية صفة أو صيغة أخذها هو مما يجب أن تحسب أخطاره المستقبلية، ولعل بعض المهارات في استثمار الأجهزة، يمكن أن نفضل عليها مهارات الحوار وقبول الآخر المختلف بشكل مباشر لا عن بعد، إذ الأمر مختلف. بل هذا من أسس الديمقراطية التي نسعى إليها.
لا يصح أن ننتظر قائلين غداً تتعلم أجيالنا من الآخرين، من أخطائها، من الحياة، من الأجهزة، أو غير ذلك، كيف يصنعون التواصل فيما بينهم، وما لم نحصل على التوافق بشأنه أو نختلف عليه، فلنشع حوله الحوار، منطلقين من المنزل، إلى الشارع، إلى مكان العمل، إلى المدارس والجامعات إلى المواقع السياسية، علنا نوفر بعض الجهد والمال والدم. ولعل أقرب الطرق إلى الدماغ فالعقل والأكثر ضماناً هي الطريق الممتدة من اللسان إلى الأذن.
للمنزل ومن فيه من الأهل، وفي المرتبة الأولى، الأب والأم، الدور الأهم في أداء مهمات يبدو في مقدمتها تعلم اللغة ومفرداتها السليمة، كذلك إشاعة التواصل عن طريقها بين الأفراد في البيت والخارج مع الآخرين، ما يقرب النفوس ويبعد التنافر بين الناس فتزداد الإلفة والتفاهم، ويكون ذلك مقدمة لدور المدرسة التي يقع عليها الدور البارز في هذا الشأن، وصولاً إلى مجتمعات لا تذهب للتناحر أمام أية مشكلة عابرة، ويكون ذلك رأفة بالأجيال والمهمات التي تتحملها مستقبلاً. والأمر يحتاج إلى الجهود الصادقة من جميع القادرين.               

العدد 1162 –  10-10-2023

آخر الأخبار
كيف نجذبه في ظلّ الاقتصاد الحر؟. الاستثمار الأجنبي بات ضرورة لبناء سوريا المستقبل الحمصي لـ"الثورة": اتباع القواعد بشكل أكاديمي والمعرفة التقنية والتسويقية حراك اقتصادي واسع في سلسلة المعارض التخصصية البرنامج النووي الإيراني: تطورات مثيرة للقلق في سياق الأمن الإقليمي والدولي   التكافل الاجتماعي.. سبيل نهوض الوطن وتعافيه القاسم لـ"الثورة": الرياح ووعورة التضاريس تسببت باستمرار حرائق الربيعة وزير الاقتصاد: الزيارة إلى إدلب بداية الإنجازات الشيخ الدرويش لـ"الثورة": الغزو الثقافي استهدف العقيدة والدين وزيّف التاريخ درعا.. القبض على عصابة قطاع طرق الشرع يبحث مع ملك البحرين في المنامة العلاقات الثنائية والأوضاع الإقليمية تشكيل مجالس علمية في مشافي حلب   الاحتلال يقصف خياماً للنازحين.. والأمم المتحدة ترفض خطة المساعدات الإسرائيلية الأمن العام يعزز تواجده على أتوتستراد دمشق - درعا رفع كفاءة كوادر وزارة الكهرباء في مؤتمر "نهضة تك".. وزير الاتصالات: نلتزم بتوفير بيئة تقنية ومنظومات رقمية تخدم المجتمع France 24: إضعاف سوريا.. الهدف الاستراتيجي لإسرائيل فيدان: مبدأ تركيا أن يكون القرار بيد السوريين لبناء بلدهم "أوتشا": الألغام ومخلفات الحرب تخلف آثاراً مميتة في سوريا الرئيس العراقي: القيادة السورية من تحدد مستوى المشاركة في القمة العربية مؤتمر "نهضة تك" ينطلق في دمشق.. ومنصة "هدهد" لدعم الأسر المنتجة