بالأمس ربما أصبح بعيداً بعض الشيء، عندما كنا ندرس اللغة العربية في جامعة دمشق، خصص قسم من الأدب للوقوف على أهم عناصر الشعر الجاهلي وهو الوقوف على الأطلال، وما يعانيه المحبون من الابتعاد عن مرابع طفولتهم ومن ثم الابتعاد عمن سكن قلوبهم عشقاً وهياماً.
وفي مرحلة لاحقة كان الاهتمام بأدب المهجر، والحال نفسه يتكرر من الغربة والبعد عن الوطن والأهل، واليوم وما نشاهده من هذه المقاومة في فلسطين المحتلة التي لا تعرف إلا أن يصارع أبطالها الموت لإعادة الأوطان إلى أصحابها، ويبذلون دونها المال والبنين والأرواح، يفرض السؤال نفسه: أي سحر تملكه هذه الأماكن وأي عشق يسكن الروح لكل حجر ولكل ذرة تراب لاتزال تنادي أصحابها للعودة إليها وحمايتها وصون ذاكرتها، والوفاء الوفاء لتاريخ شهد حكايات وضحكات ودموع حرى لهؤلاء الأبناء، ولأمجاد تستصرخ من أجل أن تبقى شاهدة على عصر البطولات ورايات النصر الخالدة.
إنه الانتماء للوطن الذي يسكن في الروح والوجدان، وهو التمسك بذاكرة المكان التي تحمل في طياتها تفاصيل تشكل الحياة عينها، وتحيلنا إلى ذاك الشوق والحنين.
وربما ما أثار هذه الشجون الاحتفال الذي أقيم بالأمس في سينما الكندي بمناسبة مئوية الشاعر نزار قباني” قمر دمشق”، وما عرضه الفيلم الوثائقي من تفاصيل تلك الأمكنة التي أزهرت وأينعت بأشعار ذاك المتيم بدمشق، وكم هي بليغة هذه الكلمات عندما تصدر من عاشق” أنا الدمشقي لو شرحتم جسدي، لسالت منه عناقيد وتفاح، ولو فتحتم شراييني بمديتكم، سمعتم في دمي أصوات من راحوا”.
أقمار دمشق كثيرة، وما يزال يتردد صداها في الأرجاء، وقد استطاع كل منهم أن يكون وفيا لوطنه على طريقته، فما أحرانا أن نعيد ألق هؤلاء بإحيائهم في نفوس أبنائنا وفي مناهجنا المدرسية، لتكون بوصلتهم فيما يرسمون من عوالم مستقبلهم، قبل أن تسرقهم تيارات العولمة إلى رموزها التي لا تشبهنا .. فهل نفعل؟.