لم يكتفِ العدوان الهمجي على (غزة) بنسف البيوت من جذورها لتقع فوق رؤوس أصحابها، بل أضاف إلى ما يقترفه من جرائم حصد أكبر عددٍ من أرواح أطفالنا، هؤلاء الذين يولدون وفي أيديهم الحجر الذي قد يشج رأساً، أو يفقأ عيناً لعدو لا يملك من إنسانية البشر شيئاً.
أطفالنا لم يعودوا في صفوف المدارس كأقرانهم في كل مكان، وليس منهم مَنْ يناديه معلمه باسمه ليجيب على سؤال، أو لأن يتقدم إليه بدفتر الواجب المدرسي، بل إن اسم كل واحد منهم بات يُكتب من قِبل الوالدين على جسده الصغير ليتم التعرف إليه إذا ما طاله قصف البشر والحجر، وتشوهت الأجساد تحت الركام، ولتُستبدل بالتالي مقاعد الدراسة بأكفانٍ بيضاء تضم أحياناً أشلاء.
ومَنْ لم يمت بحقد العدوان أصابته صدمة الخوف الذي ما بعده خوف.. الأجساد الصغيرة ترتجف لهول ما رأت، وما سمعت من أصوات انفجارات تصم الآذان، والعيون تُفتح واسعاً في ترقب قلوب راجفة لما سيأتي لاحقاً مادام الحقد الأسود ينصبُّ بغتةً فوق رؤوسهم صباً.
صفحات بيضاء نقية أصبحت تصطبغ باللونين الأسود، والأحمر.. الأسود لدخان الاحتراق، والأحمر للون الجروح النازفة.. فماذا نحن فاعلون مع هؤلاء الصغار الذين غادرتهم طفولتهم على حين غفلة في لحظة فارقة لم يسبق لها مثيل؟
فعندما يواجه الأطفال أزمات الحروب، يتعرضون لتجارب عنيفة فائقة في قسوتها تؤثر بحِدةٍ على صحتهم النفسية، والعاطفية، ومن قبلُ آثارها الجسدية ربما، ولهذا السبب يعتبر التعامل السليم مع الأطفال في مثل هذه الأوقات من الأمور الحيوية، والمهمة لمساعدتهم على بعض التعافي، والتكيّف مع الظروف الصعبة التي يواجهونها.
إن من أولويات التعامل مع الأطفال في حالات الحروب محاولة ضمان الأمان النفسي، والجسدي لهم ما أمكن لتهدئة الشعور بالخوف، والقلق المتواصل، أما الدعم العاطفي فالحاجة إليه مستمرة لا تتوقف، والاستماع إلى مخاوفهم، وما يشعرون به هو جزء من هذا الدعم لبث روح القوة، والتشجيع، والتخفيف من حِدة التوتر النفسي لديهم، وربما استخدام القصص، والألعاب، والأنشطة التعبيرية إذا ما أسعفت الظروف لتوافرها كوسيلة للتعبير عن المشاعر.
أما العلاج النفسي لحالات ما بعد الصدمة فهذا لازم وأكيد في ظروف كهذه التي يمر بها مَنْ بقي من أطفال غزة على قيد الحياة.. وما بتنا نلحظه من متابعتنا لتفاصيل الأهوال التي تسقط من السماء فوق الرؤوس هي تلك الروابط الاجتماعية القوية مع العائلة، والمجتمع لعلها تكون خطوة أولى في طريق العلاج بتعزيز قدرة الطفل على التكيف، والتعافي من أثر ما اصطدم به من أعمال عنف، وعدوان.
مازلت أذكر صورةً انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي منذ سنوات لخصت براءة الطفولة في نقائها مقابل العدوان في وحشيته، صورة لطفلةٍ تحمل دميتها وهي تضع كف يدها فوق العينين حتى لا ترى الدمية أهوال ما تراه تلك الطفلة التي وجدت نفسها دون سابق إنذار تقف وسط أتون حرب لا تبقي، ولا تذر.
مشهد بات يتكرر وكأنها الحرب ضد الطفولة، وآثارها النفسية المدمرة لا تصيب مَنْ ينجو فقط من الأطفال، بل إنها أيضاً تنال من الكبار الذين فقدوا أبناءهم مهما تسلحوا بالقوة، والثبات، وما بالنا عندما يسأل الصغار مَنْ بقي من أهاليهم عن أحلامهم المفقودة أين ذهبت، وهل ستعود إليهم يوماً؟ بل لماذا هم يصطدمون بأجسادهم الغضة بهذا الجدار القاسي من الواقع؟ ولماذا هم باتوا لا يرون من صورة الحياة سوى هذه الصورة القاتمة؟
إنها أزمة تمتد من مكانٍ لآخر في عالمنا اليوم.. أزمة الطفولة المسروقة من الأعمار، ما يجعل منها قضية على درجة من الأهمية تستدعي من المجتمعات، والجهات المعنية كافةً إسعافات لابد منها مهما تأخرت، أو واجهت من معوقات.