الثورة _ هفاف ميهوب:
لم يكن غضب الشاعر والكاتب المسرحي الفرنسي “جان جينيه” من مجتمعه، وعصيانه له مُنذ طفولته، إلا بسبب نبذ هذا المجتمع له، ودفعه إلى القيام بكلّ ما زاد الفجوة بينهما، ولاسيما بينه وبين حكومته.
إنه ما جعل منه مشرّداً ومُلاحقاً وسجيناً، وكاتباً كانت كتاباته سبباً في إطلاق سراحه، مثلما في إبداعِ المزيدِ من الكتابات التي لم تمنعه، من الاستمرار في التمرّد، بحثاً عن العدالة التي افتقدها ولم يجدها أبد حياته.
كلّ ذلك، جعله من المناهضين لكلّ أشكال الظلم والتمييز العنصري، وشاهداً على مأساة الشعب الفلسطيني.. الشعب الذي قال عن فدائيّيه، وبعد أن أمضى عامين في ضيافتهم: “إن أوروبا بكاملها لا تزن لديّ، أكثر من خنصر أصغر فدائي”.
قال هذا، ليس فقط بسبب إقامته مع الفدائيين، بل وبسبب زيارته للمخيمات التي نقل منها، شهادات حيّة ومفجعة، عما رآه من معاناة الفلسطينيّين، ولاسيما في مخيميّ صبرا وشاتيلا، حيث كان قد زارهما بعد ساعات من وقوع المجزرة، رافضاً الاحتماء بالسفارة الفرنسية في بيروت، وساعياً لتقديم شهادته لعالمٍ أراده أن يرى، ما يقترفه الاحتلال الاسرائيلي من جرائم مروّعة..
يروي ما شاهده من صور الموت وبواقعية، وثّقها ضمن كتاب “أربع ساعات في شاتيلا”، قائلاً بالألم الذي استشعره، يسخر من قتلة الحياة و الإنسانية:
“وسط جميع الضحايا الذين تعرضوا للتعذيب، لا يستطيع ذهني أن يتخلّص من تلك النظرة اللامرئية.. كيف كان شكل ممارِس التعذيب، ومن هو؟.. إنني أراه ولا أراه، إنه يفقأ عيني.. كم يلزم من الأمتار لتكفين هذا العدد الكبير من الموتى؟.. وكم يلزم من الصلوات؟”..
وثّق “جينيه” كلّ هذا وأكثر، وكالعادة، عندما ينبري مثقف أو كاتب أو أيّا كان، لإدانة إسرائيل وجرائمها الهمجية، ينصبّ عليه حقدها ويُتّهم بكرهه لها، وبدعمه للإرهاب ومعاداته للسامية.. يُتهم بهذا وغيره، مما اتّهم به هذا الكاتب، الذي كان قد كتب قبل ذلك، الكثير من النصوص التي تتناول “العدو المُعلن” و”الأسير العاشق” و “الفلسطينيون”، وغير ذلك مما جعله صديق القضية الفلسطينية، والمناضلين لأجلها ممن أعلن بأن غايته من تقديم صورهم النضالية:
“غايتي من تقديم هذه الصور، الفهم الأفضل للفلسطينيين، وتحديداً الفدائيين، وإن أردنا فعلاً فهمهم، ليست هنالك غير طريقة واحدة: النضال معهم، النضال مثلهم”.