ديب علي حسن
في تاريخنا الكثير من المحطات التي لم تلق الاهتمام الكبير دراسة وبحثاً، ولاسيما في مجال الفكر الفلسفي والجمالي، ولم يخطئ من قال: إن كل ما قدمته الفلسفة اليونانية مقتبس من الفكر السوري القديم.
الناقد والمترجم الأستاذ حنا عبود، والمنقب في هذا التراث يتتبع تاريخ السوري لونجينيوس صاحب كتاب الجليل في الأدب، الذي أصدره اتحاد الكتاب العرب في دمشق الترجمة لحنا عبود.
يكتب عبود عن حياة مؤلفه قائلاً:
ولد طفل في حمص (عام 213) فسمي ديونيسيوس لونجينوس، وبعد ستين عاماً أعدمه الرومان، لأنه كان أستاذاً، ثم مستشاراً للملكة زنوبيا التي أعلنت العصيان على أوامر روما، لما نال الجنسية الرومانية اختار له الرومان اسماً منسجماً مع الأسماء الرومانية المتداولة عندهم، فسمي كاسيوس لونجينوس، وقد أخطأ بعض مترجمي كتابه «الجليل في الأدب» فوضعوا أول الأمر الاسمين معاً على الشكل التالي: ديونيسيوس أو كاسيوس في القرن العاشر، ولكن فيما بعد تحقق المحققون أنه ليس ذاك الذي قيل إنه عاش في القرن الأول، لأن الأفلاطونية الجديدة لم يكن لها ذكر في ذلك القرن.
قصة حياة كاسيوس لونجينوس هي قصة حياة نبيل (وهبه خاله كل ثروته، وكان من كبار المثقفين): تعلم في مدينته، ثم تابع في مدرسة الإسكندرية، وهناك كان يجلس إلى جانب أفلوطين وأنصاره وبعض خصومه، وكان له تلميذ من أبناء مدينته هو فرفوريوس، لكنه ولد في صور فلقب بالصوري. وقضى فترة يعلم الخطابة في أثينا، ويدرس الأساليب البلاغية في كل الفنون الأدبية، وبخاصة في الخطابة.
المستشار وانتقام العبث
كان مربياً لزنوبيا في صغرها، ثم تركها وانطلق وراء علمه وثقافته، فلما طار صيته بعد المؤلفات العديدة استدعته زنوبيا ليكون المستشار الأول في بلاطها. ولكنه كان يمارس عمله حيث تقتضي الضرورة فيطوف حمص وتدمر، ويتجول في أنحاء بلاد الشام للاطلاع على أحوال إقليم يريد أن يحمي نفسه من الرومان، فكانت خطته على النحو الآتي: تجميع الممالك الصغيرة في بلاد الشام والتوسع في ذلك حتى الأناضول مع توسيع المجال الحيوي الآسيوي حتى يكون سنداً للدولة مع ممارسة سياسة موالية لروما وعدم إظهار العداء لها.
ويوكل الأمر إلى العلاقات الدبلوماسية في حل الخلافات وتعيش الدولة الجديدة من دون تهديد وقد انطلق من هذه الخطة لأنه يعي تماماً أن روما قوية بحيث لا يمكن لمملكة زنوبيا أن تتغلب عليها، وقد سار ما كانت تسير عليه بلاد الشام كلما تهددها خطر. وبلاد الشام هي مجموع البلدان التي تكرست فيها عبادة الشمس (الشام تعني الشمس في كل اللغات الشرقية القديمة منذ الحلف الشمسي الذي تشكل ضد النبي داود الطامع في هذه البلاد) وهي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تحول من دون أطماع روما.
لكن يبدو أن طموح زنوبيا استشط إلى حد تشكيل إمبراطورية كبرى (مصر والرافدين وأعماق الأناضول) تتصدى لروما وتسيطر على كامل الحوض الشرقي للبحر المتوسط، فصارت تراسل روما من خلف ظهر لونجينيوس ربما بناء على تحريض بعض المستشارين على اعتبار أن تهديد روما بعد هذا التوسع التدمري يمكن أن يلجمها ويمنعها من اجتياح مملكة زنوبيا.
ولكن لسوء الحظ كان اوراليان بصدد توحيد الإمبراطورية الرومانية بعد أن ضمن الداخل الروماني ببناء سور وإنشاء دائرة للمعوزين بحيث لا يسمع شكوى من معوز فلما قرأ رسائل زنوبيا اشتد غيظا وصمم تدمير تدمر وهذا ما حصل اعدم كل مستشاريها فلما جاء دور لونجينيوس تقدم من دون معلم من معالم قيافته ولم يصرخ أو يظهر الندم أو الألم. سعت زنوبيا للحصول على عفو فلم تفلح.
الجليل في الأدب
وكان كتاب الجليل في الأدب، كما أسلفنا، صدر ضمن سلسلة الترجمة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق لـ”لونجينوس”، بترجمة وتقديم وشرح للأديب حنا عبود.
يعكس الكتاب الذي اكتسب شهرة لم يسبقه إليها كتاب من نوعه الموقف الأفلاطوني في أن الجليل يخلق في داخل المرء ولا يأتيه من الخارج، وقد تبنى لونجينوس في كتابه هذا نظريته في الجدل الصاعد، حيث إن مسعى الإنسان هو الصعود في طريق الالوهية، وكل ما يقربه منه الألوهية لا بد أن يكون جليلاً، بمعنى أنه يدب في النفس المهابة والخوف والروعة إلى جانب الاحترام والحب والإعجاب.