الجروح تتعدد وتتنوع، وأقساها جروح القلب والنفس، والهم القومي هو واحد منها عندما تصاب الأوطان بالابتلاء، وتتعرض للاعتداء.. واليوم تتزامن أحداث غزة مع ذكرى رحيل الأديبة (قمر كيلاني) أمي التي حملت الهم القومي جرحاً نازفاً على الدوام في قلبها من فلسطين الجريحة إلى الجولان السوري المحتل، فكرّست له جل مؤلفاتها ومنذ مجموعتها القصصية الأولى (عالم بلا حدود)، والتي تنبأت فيها بالانتفاضة الفلسطينية في قصة (اللعبة الخطرة)، وقد استوحتها من حادثة جرت في القدس عندما تآمر بعض الأطفال على الجنود الإسرائيليين الذين يعتقلون الفلسطينيين، بأن رموا مياه الصابون في طريقهم، وكأنها تقول في رؤية مستقبلية لما سيجري إن الإسرائيليين لو بدؤوا يلعبون مع هؤلاء الأطفال فإنها اللعبة الخطرة التي ستؤدي إلى رميهم بالحجارة، ومن ثم مقاومتهم بكل سبيل، وهذا ما حدث فعلاً فيما بعد في الانتفاضتين.
أما مدينة (القنيطرة) في الجولان السوري فقد ظلت حية نابضة على صفحات تلك المجموعة القصصية (حلم على جدران السجون) كوردة سقطت من جنة السماء ليظل أهلها مصابين بما يسمونه التعلق بالأرض.
ومعها نصل إلى رواية (الهودج) وكان إهداؤها للشاعر الفلسطيني الكبير(أحمد دحبور) فلقصته نصيب ليس بالقليل من سطور تلك الرواية التي ترصد نكبة فلسطين، وهي تقول فيها: (وتبقى العروبة لا حلماً إنما عودة الصحيح إلى مكانه).. وتقول عنها: (كلما رجعت إليها أحسست وكأنني كتبتها للتو، وخاصة عندما تهطل علينا أنباء القدس كالمطر.. ألم يكن الهودج، والعرس الفلسطيني الذي هددته غربان الاحتلال، وطيوره الجارحة إلا جزءاً من واقع نعيشه الآن؟ والبطلة (ورد) التي أرادوا لها عرساً أصيلاً في مدينة القدس أليست صورة من صبايا القدس، والأعراس التي تتحول إلى مآتم؟).. بل إن هذا ما يحدث الآن فعلاً في (غزة) وفي كل شبر من الأرض المحتلة.
و(الهودج) يحملنا بدوره إلى رواية (حب وحرب) عن حرب تشرين وما انطوت عليه من حبٍ للأرض، وحربٍ في سبيلها.. ومن بعدها رواية (الأشباح)، ثم (الدوامة) وهي شبه وثيقة عن نكسة حزيران، فالأدب يؤرخ أحياناً أكثر مما يفعل التاريخ. واعتبرت (الدوامة) واحدة من أهم مئة رواية في القرن العشرين.
وفي روايات الأديبة (قمر كيلاني) تتداخل الموضوعات بين الاجتماعية، وتحرر المرأة، والتقاليد، والعادات، والعلاقات العاطفية والأسروية.. لكن الطابع الرئيسي هو الهـم الوطنـي ــ القومـي الذي هو الناظم الرئيسي للرواية عموماً عند أديبتنا. فالرواية ــ كما تقول ــ لا تدور في الفراغ بل ضمن دوائر من الأصغر إلى الأكبر، وهل هناك أوسع من الأمة، والوطن الكبير؟.. وكل ما كتبت عنه من موضوعات اجتماعية كانت تتقاطع بالتالي دوائرها مع دائرة الهم العام، فهي دوماً تخرج من الذاتية، والعوالم الخاصة المغلقة إلى مضامين جديدة تتداخل فيها الهموم الاجتماعية مع الأخرى الوطنية، والقومية.
ودون أن ننسى أن هذا الهم ظل حاضراً أيضاً في مقالاتها الأسبوعية التي استمرت على مدى عقود من الزمن.. وها هو الزمن يعيد رسم المشهد من جديد، ولكن بمزيد من القسوة، والعنف الذي لم تصل إليه أي رؤيا تنبؤية لكاتبٍ في أي وقت، وزمان.
إن الهم القومي لا ينفصل عن الشعور بالانتماء، والانفتاح على قضايا الوطن ومصالحه، كما يتعلق بالهوية، والثقافة، والتاريخ، والقيم الوطنية، والكرامة، فأي ضررٍ يلحق بالجزء يصيب الكل. ومما يثير الاهتمام أن أجواء الحرب الدامية في (غزة) وما يجري فيها قد وصل صداها إلى معارض الكتاب إذ يتجه روادها إلى البحث عن الكتب التي تتحدث عن فلسطين ليقبلوا على اقتنائها سواء أكانت دراسةً، أم قصة، أم رواية، أو شعراً، وليبحثوا عمن كتبوا عنها وكأنه الإحياء للذاكرة العربية على الرغم من أن القضية لم تغب عنها يوماً.
وغادرت (قمر) قبل أن تعرف أن الجرح العربي عاد لينزف بمزيد من الدماء في (غزة)، وأن هذا يحدث ليس على مستوى الأفراد، أو الجماعات فقط بل على مستوى الأمة بأكملها.
لكن الأمل باقٍ ما بقيت روح الصمود، والتمسك بالأرض التي هي الحق.
* * *