الثورة-هفاف ميهوب:
“يدخل الفلسطينيّ غربته، يغطّي مساحة حلمه خياماً، تتبعثر في البلدان، فيشكّل امتحاناً لنفسه، ويرفض الآخرون هذا الامتحان.. رحلة قهره تمتد، يحاول التأقلم المؤقّت أو النسبي، لفترةٍ كان يعتقد أنها قصيرة، ولم يخطر في باله يوم حمل همّه ورحل، أنها ستطول إلى هذا الحدّ”..
إنها رحلة القهر التي روتها الأديبة والشاعرة الفلسطينية “زهرة عبد الجليل الكوسى” بعد أن رأتها تمرّ عبر دروبٍ، أشجعها النضال وأوجعها الاعتقال..
نضال الأسير الذي يشعر بأن الحياة بين جدران المعتقل “حوّلت الدم إلى زئيرٍ أبدي، يستحيل أن يخفت، وكريّات الدم إلى دبوسٍ ينغرز بين العقل والإدراك.. إذ إن الأسير هو الوطن، والوطن فيه”..
هذا ما ترويه “زهرة” عن كلّ أسيرٍ فلسطيني، عانى ما عاناه الأديب والمناضل “إبراهيم سلامة” خلال وجوده في معتقلات العدوّ الإسرائيلي.. تروي ما استعارته من ذاكرته، وبعد أن تسأله، فيجيب مضمّخاً بالألم أسئلتها وأجوبته:
“ماذا لديك؟.. القليل من بقايا جسدٍ فتكت به أساليب القمع، أو محاولة لتموت حيّاً، وأنت تعلن العصيان والصراخ بهمسك: أنا صيرورة النضال، وأنا الفلسطيني المهاجر من ذاتي إلى ذاتي، ومن حزني إلى أحزاني.. أنا الفلسطيني يشدّني أسري إلى جذري.. لا أشبه أحداً، فأنا الملك والمالك والقتيل والمنتصر”..
نعم، هذا ما لدى الأسير الذي يشعر، بأن الأرض قد فرّت من تحت قدميه لسنوات، وبأنه رغم فرارها هذا، يعود لزرعهما فيها، ليطارد نسمة الصباح، ونجمة الليل التي بحث عنها مرّات ومرّات.
هذا مالدى المناضل المقاوم “إبراهيم سلامة”. الأسير الفلسطيني المُحرّر، والذي كان من أوّل الفدائيين الذين عبروا نهر الأردن باتجاه بلاده فلسطين.. عبرها في عملية فدائية نادرة، أدّت إلى أسره شاباً، وتحريره وقد اشتعل الرأس شيباً، دون أن يتوقف عن المقاومة والدفاع عن وطنه، مع بقية المناضلين..
هذا مالديه وقرأناه عبر سيرته، التي “تتعدّى رحلة التأمل والقفز فوق ماهو موجود، إلى خارج تلك الحدود”، والتي بحثت فيها “زهرة”، عن صيرورة المبدأ لديه، وكرائدٍ في أسره، كما في فنون إبداعه وفكره.
كلّ هذا وغيره من سيرة هذا المناضل والأسير المحرّر .. الكاتب والشاعر الذي لم يكتفِ بالبندقية سلاحاً يدافع به عن قضيّته، بل حمل أيضاً القلم، ليواجه به عدوّه، وظلام الحياة التي ظلمته..كلّ هذا وثَّقته “زهرة” التي سمته الفدائي.. الجندي المجهول الذي رصّعت بسيرته كل كلماتها، فكان أن اتّقدت نار كلّ كلمة فيها، مع اتّقادِ تداعياته، بدءً من تهجيره وأسرته، مروراً بأسره، وانتهاءً بلحظة رحيلة مع حلمه، بالعودة ككلّ مناضل فلسطيني:
“في البدءِ كان الوطن، وفي النهاية يكون الوطن، ومابين البداية والنهاية إنسان يُشعل روحه، وربما تتوالى الأرواح، تلدُ اشتعالاً، وقد لا يأتي من يضيف إلى الموتِ حقيقة أكبر”..