الثورة- ديب علي حسن:
الأن يطرح هذا السؤال بقوة وإلحاح: أين ذهب كل المثقفين.. بل لماذا ذهبوا هل اختفوا طوعاً وتخلوا عن أدوارهم التي كانت ذات يوم، وأقامت حضارات إنسانية ووقفت بوجه الطغيان والاستبداد.. هل تم قمع الأقلام وتحطيمها وكم الأفواه قسراً وعنوة أم جرى الأمر عبر عمليات مسخ وتدجين طالت كل شيء من الإنسان العادي إلى المفكرين وتم زج الجميع في قفص الترويض أسئلة كثيرة تبحث عن إجابات، الأن ومن جديد صحيح أن فرانك فوريدي طرحها في كتابه المهم الذي حمل عنوان: أين ذهب كل المثقفين وصدر منذ فترة من الزمن بترجمة الدكتور نايف الياسين في هذا الكتاب.
يرى فوريدي أن المثقف بات مخلوقاً مهدداً بالانقراض؛ ومضامين هذه الظاهرة أن أشخاصاً مثل: برتراند راسل، أو ريموند وليامز، أو حنة أريندت ـ أشخاص يمتلكون معارف حقيقية، ورؤية واسعة، ويهتمون بالقضايا العامة ـ تم استبدالهم بمتحدثين سطحيين، وعنوان الكتاب نابع (من هاجسين عميقين: فقدان “البوصلة الفكرية” ومشكلة “التسطيح المؤسسي”، التسطيح الاجتماعي، معاملة الشعوب كأطفال لا كبالغيين ، تسطيح المفاهيم والأعمال الفنية وغيرها بقصد أن تصل لأكبر شريحة ممكنة من الجمهور، تدجين المثقفين والمفكرين داخل المؤسسات البحثية وتحويلهم لمجرد موظفين إضافة لتهميشهم أعلامياً ومجتمعياً وجعلهم محل سخرية، وفي المقابل دعم الفنانين ونجوم كرة القدم والإعلاميين وكتاب القصص وتصديرهم كنجوم وقادة ونماذج يحتذى بها والاعتماد عليهم في تشكيل وعي شعوبهم، فتكون النتيجة شعوب مسطحه بلا وعي ولا ذاكرة ولا عقل نقدي. فالجامعات بعد أن كانت بؤرة إبداعية وثقافية في الماضي، أصبحت مكاناً يضم الأذكياء رفيعي التعليم، وأكاديميين مهنيين، لكنهم بالتأكيد لا يعدون ضمن الطبقة المثقفة المؤثرة.إن المثقف الحقيقي أصبح كائناً مهدداً بالانقراض؛ بسبب طوفان مدعي الثقافة الذين هيمنوا على الساحة الثقافية دون محتوى أخلاقي، على الرغم من أنه يفترض أن الثقافة عالية الأداء والجودة تتطلب بالضرورة مشتغلين رفيعي المستوى لا أن تتعرض للترهل بسبب اندفاع الأشخاص العاديين لميادينها الفكرية والأكاديمية، ؛ وعليه، نجد أن الساحة خسرت مثقفين بارزين لا يعوضون أمثال: برتراند راسل، أو ريموند ويليامز، وهما وغيرهما مثقفون يمتلكون الرؤية، والاهتمام بالقضايا العامة.يجب تطوير الحياة الثقافية في الجامعات والمجتمع، إن الناس يستحقون مناظرة فكرية على درجة عالية من الجودة في المؤسسات الثقافية، بوصفهم أشخاصاً يحملون إمكانات كامنة كبيرة، وعلى قدر من الاحترام والتقدير، أن يكون المرء مثقفاً يعني أن ينخرط اجتماعياً، يصعب على المرء أن يعيش من أجل الأفكار ولا يحاول أن يؤثر في مجتمعه، والأمر لا يتضمن فقط الانخراط في النشاط الذهني الإبداعي ،
بل أيضاً افتراض المسؤولية الاجتماعية واتخاذ المواقف، والمشهد العالمي اليوم فعلاً يفتقد العمق الفكري والأخلاقي والقيمي وتم تحويل كل شيء إلى قيمة مادية فلم يعد من المهم أن ينتج العالم إبداعاً فكرياً راقياً.. بل غدت وسائل الترفيه والقدرة على جذب رؤوس الأموال وتسليع كل شيء هو الأساس..لقد تم اغتيال العمق في الثقافة والتربية والتعليم وحل التزييف مكان الأصيل والمثقفون إلا قلة قليلة ران الصمت على قلوبها وعقولها وركبت الموجة.. والسؤال لم يعد اين ذهب كل المثقفين..بل هو: كيف نستعيد بناء الإنسان لبناء العالم؟.
التالي