الملحق الثقافي- د. عيسى الشمّاس:
(1)
ثمّة علاقة قديمة بين الشعر والفلسفة، حيث وجدت الفلسفة من الشعر وسطاً تجسّد من خلاله ما يمكن القول عن الكون والطبيعة والإنسان، بما في ذلك الثالوث الفلسفي (الحقّ والخير والجمال)؛ فالشاعر يبثّ في قصائده، كمّاً من المشاعر أو الأحاسيس التي يريد أن يوصلها إلى القارئ الذي يتفاعل معها ويتأثر بها، سلباً أو إيجاباً، أمّا الفلسفة هي دراسة المعنى، والمبادئ الكامنة وراء السلوك، والفكر، والمعرفة، والمهارات التي يشحذها هي القدرة على التحليل والتشكيك في الأصول، والتعبير عن الأشياء بوضوح.
إنّ الفكر والخيال والعاطفة، من ضرورات الفلسفة والشعر معاً، مع اختلاف في النسب وتغاير في المقادير، فلا بدّ للفيلسوف الحقّ من نصيب من الخيال والعاطفة، ولكنّه أقل من نصيب الشاعر؛ ولا بدّ للشاعر الحقّ من نصيب من الفكر، ولكنّه أقلّ من نصيب الفيلسوف. وهذا يعني أنّ الشعر يمكن أن يكون بمضمون فلسفي، ولكن ليس كالفلسفة المجرّدة، وهذا التوجّه الذي يسلكه الشاعر نحو الفلسفة، يمنحه وعياً فكرياً خاصاً، يستطيع من خلاله أن ينطلق إلى بنية لغوية ذات مصفوفة جاهزة، بأسلوب فنّي مناسب، يشيّد من خلاله النصّ الشعري الذي يجد نفسه فيه، ويتفاعل القارىء معه.
(2)
تعدّ الحياة الإنسانية أرضاً مشتركة يجول فيها الشاعر والفيلسوف كلّ بحسب ما يريد ويبتغي؛ فهي تعبّر عن نفسها بالأدب حيناً وبالفلسفة حيناً آخر، فتكشف عن حقيقتها على لسان شاعر ثم تستهلكها في طيّات أوراق فيلسوف، وبين ثنايا تحليلاتها، تمنح الحياة الإنسانية الطرفين تجربة إنسانية غنيّة تثير المفاهيم والرؤى، وتمدّها بمعين لا ينضب. ودون أدنى شكّ إنّ الشاعر والفيلسوف، بسبب كونهما عنصرا إبداع إنساني لهما تجربتهما الداخلية والشخصية المؤلّفة من ميول ورغبات ومواقف وتجارب ، يكشفاها ببراعة ويظهراها بصورة فنية؛ فالشاعر عن طريق لوحته الشعرية التي تأسر القلوب وتحلّق بنا في عالم الخيال والإحساس والعاطفة، وكذلك الفيلسوف الذي تتحول تجربته إلى رؤية عميقة بعيدة الغور، كليّة وشاملة تظهر في تبلورها لموقف أو نظرية (ستار تايمز ، 2010، الشاعر والفيلسوف).فإذا كان ثمّة خلاف في طبيعة كلّ من الشاعر والفيلسوف ، فإنّ ثمّة -في المقابل- بعض الحالات من التواصل بينهما، عندما يدرك الفيلسوف أنّه يفتح للشاعر أبواب الوحي، ويدرك الشاعر ما ينبّهه إليه الفيلسوف من موضوعات للبحث، يجمع فيه بين الطابع الأدبي والأسلوب الفلسفي/ العقلاني.
ثمّة مقاربتان لمعادلة: المقدّمة المعرفيّة والنتيجة الجمعية، فيما يتعلّق بمسألة قسوة الشاعر ونعومة الفيلسوف، الأولى ذاتية أعني متعلّقة بالشاعر ذاته أو الفيلسوف ذاته؛ إذ يخضع نصّه أو متنه لشرط الجدل الخاص به، فالنصّ الناعم أو المتن القاسي – من دون الدخول في تعميمات مُطْلقة- ناتج بالضرورة عن حالة قاسية أو حدث ناعم. والثانية غيريّة، مُتعلّقة بالقارئ سواء أكان قارئاً فرديًّاً أو قارئاً جمعيّاً. فالتوتّر الحاصل بين نصّ شعري ناعم يُقرأ بشغف كبير وما ينتج عنه من قسوة وجدانية لحظة ما بعد القراءة، أو ذلك التوتّر الحاصل بين متن فلسفي قاسٍ يقرأ بِترَوٍّ وصبر شديدين، يؤكد على حضور جدلية المقدّمة المعرفيّة والنتيجة الجمعية( بني عامر ، 2019 ). ذلك لأنّ الفيلسوف يعتمد لغة شمولية كليّة، قائمة على العبارات العمومية المجرّدة ، أو ما يسمّى بالمفاهيم المجردّة، أمّا الشاعر فيتلاعب في تشكيل الكلمات، ليجعل منها صورة تذخر بالدلالات التي تخرج الكلمة من طبيعتها الجافة.
قيل: إنّ الشاعر والفيلسوف لا يتّفقان، فالفيلسوف يزعم أنّ الشاعر يحبّب إلى الناس الخلاعة، ويغريهم بها؛ والشاعر يظنّ أنّ الفيلسوف يبعدهم من الإدراك الأسمى لحقائق الحياة. وقيل: إنّ هذا الخلاف بينهما قديم جدّاً، أقدم من أفلاطون وهوميروس، فلا الفيلسوف يحترم الشاعر منذ ذاك الزمن حتى اليوم، ولا الشاعر يحترم الفيلسوف. أمّا إذا أمعنا النظر في المسألة، فيتبيّن أنّ بين الشعر الكوني الروحي وبين الفلسفة التي تقرن المادة بالروح صلة متينة؛ ونسباً قديماً يمتّ إلى أفلاطون وهوميروس ومن تقدّمهما. والحقّ يقال: إنّ في فلسفة أفلاطون شعراً صافياً، وفي شعر هوميروس فلسفة سامية.
كما نجد الفلسفة بعيدة الغور والمرمى في شعر غوته الألماني، وفي شعر ووردزورث الإنكليزي، ناهيك عن شكسبير وما أحاط به في شعره ورواياته من طبقات النفس والفكر، ومن آفاق الخيال والتصوّر، ومن جوامع الأدب والفلسفة. وكذلك في شعر أبي العلاء المعرّي، شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، وابن بالفارض، شاعر التصوّف والفلسفة الإلهية، والفيلسوف الطبيب ابن سينا؟ (مؤسّسة هنداوي، الشاعر والفيلسوف، 2023 ). وعليه فلا بُدّ للشاعر أو الفيلسوف من كينونة ما يركن إليها، حتى لا يكون محض امتهانه للشعر أو الفلسفة امتهاناً ذهنيّاً خاصاً، غير مُجسّد في نصّ ما ينبض بالحيويّة التي تمنح القارىء المتعة والفائدة.
(3)
كان انخراط الفلاسفة في الشعر سمة متكرّرة وحيوية للثقافة الفكرية في العصور اليونانية الرومانية القديمة. وبحلول عام 380 قبل الميلاد، كان بإمكان أفلاطون في جمهوريته أن يشير بالفعل إلى «نزاع طويل الأمد بين الفلسفة والشعر». فعلى الرغم من الارتباط الوثيق بين الفلسفة اليونانية المبكرة والشعر كما في كتبXe في الشعر) فقد وضعت نفسها لمنافسة الادعاءات من «الحكمة»، صوفيا، التي أدلى بها الشعراء ونيابة عنهم، الذي ينبذ الدين المجسّم، ويلقي انتقادات أخلاقية ولاهوتية على أساطير هوميروس وهيسيود؛ وأعرب هيراقليطس عن شكوك كاوية حول فكرة الشعراء كأصحاب ومعلّمين للبصيرة. لذلك يمكن اعتبار الفلسفة والشعر مصادر متنافسة للمعرفة والفهم، حيث تمّ إعداد المسرح لمناقشات دائمة حول علاقتهما (ولكن على الرغم من أنّ المناقشة الشاملة للعلاقة بين الفلسفة والشعر، قد توفّر ظروفاً مناسبة لاستكشاف الموضوعات الفلسفية، إلاّ أنّه يمكن اعتبار الشعر مدخلاً بديلاً إلى التفكير الفلسفي.
تحدّدت علاقة الشاعر بالفيلسوف منذ الفكر الأفلاطوني في السنوات العشر الأولى من القرن الرابع قبل الميلاد، التي كشفت كنزاً عميقاً من الدلالة في صلة المفكر الفيلسوف بالفنان الشاعر. والحقّ إنّ أفلاطون هو الذي نقل الشعر إلى أعلى درجة من عالم الفلسفة، فضلاً عن أن الأفلاطونية هي التي سمحت للكثيرين من الشعراء، خلال العصور التاريخية المتعاقبة، بأن يجدوا منفذاً إلى الميتافيزيقا. فأفلاطون بحوارياته كان يلجأ الى الشعر في مواضع عديدة كي يوضح مفهوماً فلسفياً، وبذلك يكون أول فيلسوف اكتشف موهبة الشاعر وعلل عالمه الشعري . ففي هذه الحواريات عرض أفلاطون طروحات فلسفية خطيرة ومبكرة في عالم الشعر. ولعلّ تساؤلات الفيلسوف الأولى كانت منصبّة على مصدر الشعر لدى الشاعر، أهو الفن أم الإلهام ؟ فقد صوّر أفلاطون الشاعر على أنه (كائن أثيري مقدّس ذو جناحين، وأنّه لا يمكن للشاعر أن يبتكر قبل أن يُلهم، وأنّ هذا الإلهام يفقده إحساسه وعقله (ستار تايمز، 2010، الشاعر والفيلسوف). وبناءً على ذلك، حدّد أفلاطون ماهية موهبة الشاعر بكونها موهبة إلهامية، وأنّ الشاعر لا يتقن إلاّ ما تلهمه ربّة الشاعر. وكأنه يحاكي ما يقال عن الشعراء العرب القدامي الذين يذهبون إلى « وادي عبقر « ليستلهموا ملكة الشعر.
(4)
إنّ الشاعر الفلسفي هو كاتب شعري، يستخدم الأدوات الشعرية لاستكشاف الموضوعات المشتركة في مجال الفلسفة، ولا سيّما تلك الموضوعات التي تدور حول اللغة، على سبيل المثال: فلسفة اللغة، والسيميائية، والظواهر، والتأويل، والنظرية الأدبية، والتحليل النفسي، والنظرية النقدية. فالشعراء الفلسفيون، مثل الصوفيين، يرسخون أنفسهم، من خلال المثل الأعلى، إلى الشكل الواضح للكائن من خلال وضع رموزه وصفاته جنباً إلى جنب. ويعتمدون على الحدس والذاتية لحواسهم لتصوير الواقع( فتتناول كتاباتهم الحقيقة من خلال اللغة التصويرية (أي الاستعارة) في الأسئلة المتعلقة بمعنى الحياة، وطبيعة الوجود (الأنطولوجيا) ، ونظريات المعرفة والمعرفة (نظرية المعرفة)، ومبادئ الجمال (علم الجمال)، والمبادئ الأولى للأشياء (الميتافيزيقيا) أو وجود الله.
بينما كان أفلاطون يحاكي الشعر في أساطيره وفي ملامح كتاباته الدرامية، أنتج نقداً بعيد المدى لأوراق اعتماد الشعر كقوّة تعليميّة داخل الثقافة اليونانية. فعلى الرغم من اهتمامه في بعض الأحيان بتعقيدات السياق، إلاّ أنّه يستجيب لميل قائم لاعتبار الأعمال الشعرية تحمل أهمية معيارية: «الحقيقة» المفترضة للشعر. كان أرسطو أيضاً ملتزماً بالنطاق المتفوّق للفكر الفلسفي، ولكنّه أكثر استعداداً من أفلاطون للسماح بالقيمة الثقافية المستقلّة للشعر. ويؤكّد أنّ المعايير الشعرية ليست متطابقة مع معايير (الأخلاق / السياسة)، والرسالة ككل، تحترم التقاليد العامة وتعترف بوضع الشعر كفنّ متميّز، وتضع فئات تركّز على التنظيم الداخلي للأعمال الشعرية. فعلى الرغم من التباعد بين لغة العقل ولغة الوجدان ظاهريّاً، فإنّهما منسجِمتان ومتناغِمتان في جوهرَيهما.
على طرفٍ موازٍ، لا بُدَّ من كينونةٍ ما تطبع الشاعر أو الفيلسوف بطابعها الخاص، وإلاّ لانتفت صفته الاعتبارية في العالَم ولأصبح بُعده الهُوياتي بُعداً مهدّداً. فالشاعر لا بُدّ له من نصّ يحسم فيه رؤيته للذات وعلاقاتها مع العالَم، كذلك الفيلسوف لا بُدّ له من نصّ يحسم فيه رؤيته للذات وعلاقاتها مع العالَم. لكن تجسّد هذه الكينونة لا يعني بأيّ حال من الأحوال نفي الشرط الجدلي عند الشاعر أو الفيلسوف، بل على العكس قد يتمثّل هذا الشرط أفضل تمثّل، ولا سيّما ساعة كتابة هذا النص وانتصاره للمقولة الإنسانية القَبْلِيَّة، حتى إن طُبع الشاعر بطابع ناعم في الأذهان، وطبع الفيلسوف بطابع خشنٍ في الأذهان هو الآخر( بني عامر ، 2019 ).. وهذا يعني أنّ كلا من الفنَّان والأديب في حقيقته فيلسوفٌ، أخذ الفكرةَ من الصورةً الحسيّة، وأحياها بالعاطفة الجيَّاشة، بدلالات مختلفة.
العدد 1173 – 9 -1 -2024