الثورة – ديب علي حسن:
مما لاشك فيه أن الإبداع في أي لون من ألوان الفنون، إنما هو قفزة نحو شيء جديد لم يكن مألوفاً أبداً، من هنا البدعة تعني الخروج عما متعارف عليه.
وكان النقاد العرب القدامى ممن درسوا الشعر العربي القديم لايقفون عند أي شاعر يخرج عما يسمونه عمود الشعر ومعروفة مواقفهم من أبي تمام الشاعر الحداثي المتجدد دائماً.
أما في العصر الحديث فقد تغيرت الذائقة الشعرية وضاقت القوالب الجامدة بالطاقات الإبداعية الكامنة فكان شعر التفعيلة، ولم يبق على حاله بل تلونت وتنوعت أساليبه إلى القصيدة الومضة والنثر وغير ذلك.
في هذا التوثب المتفجر يبدو أن التجارب النسوية هي المرشحة دائماً لكسر الذائقة الخامدة، وفي هذا الإطار كانت مبادرة الشاعر أدونيس باختيار مجموعة من الأعمال الشعرية الأنثوية التي لم تنشر ضمن مبادرة إشراقات.
وما إن تم الإعلان عنها حتى بدأت عشرات الأصوات الشعرية النسوية على مواقع التواصل الاجتماعي في الأخذ والرد وكيل الاتهامات.
ومع أن أدونيس منذ فترة طويلة وهو يراهن على الصوت الأنثوي في الشعر العربي وقد أشارت إلى ذلك الناقدة بديعة زيدان بقولها؛ “مع كلّ ما تبقى من الجيّد، وأسس لخطوات جديدة، أعتقد، إذا ما قارنّا جيلنا نحن منذ 1950 إلى 2022، أجد أن الجيل الراهن اليوم، وخاصة جيل الشباب الحيّ، أفضل منّا بكثير، بحيث استفاد منّا، لكنه بات أكثر ميلاً إلى تغيير الأشياء، وإلى خلق علاقات جديدة بين الإنسان والعالم، وبين الشيء والكلمة”.
كان هذا شيئاً من بوح الشاعر العربي السوري الكبير أدونيس، خلال ندوة ضمن فعاليات مهرجان أبو ظبي الدولي للكتاب، مؤخراً، حول “الشعر العربي راهنه ومستقبله”.
وأضاف: أميل إلى القول: إن الصوت الأساسي في الكتابة الشعرية الحاليّة، يتمثل في صوت المرأة، بالنسبة لي، فالمرأة اليوم تقود الحساسية الشعرية الجديدة، لأنها بدأت تميّز جسدها عن رأسها، وبدأت تشعر بجسدها واحتياجاته وأعماقه وفضاءاته أكثر ممّا تشعر بوضعها الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي، أو الديني حتى ذلك المتعلق بواقعها أي رأسها، وهذا الفصل بين الرأس والجسد تقوده المرأة، وهي بذلك تحقق اختراقاً أساسيّاً لم يستطع الشعراء أن يحققوه.
وتابع أدونيس: أقرأ الآن نصوصاً لشاعرات عربيّات، من فلسطين، ومن جميع البلدان العربية، وأعترف أن هذا الجيل النسائي هو أهم بكثير من جيلنا نحن.. هناك نساء وأصوات لم يتح لهن حتى الآن أن ينشرن شعرهن، لكن سيأتي يوم، وينشر هذا الشعر.. لذا فأنا أراهن على هذا الراهن، لكني أؤكد أن الشعر يحتاج إلى ثقافة، ويحتاج إلى فضاء شخصي وعميق وحرّ، ولا أحد يستطيع إعطاء الحريّة لأي شخص آخر، فالإنسان هو وحده القادر على أن يعيش حريّته، وبقدر ما يعيش حريّته بقدر ما يستطيع الخروج بنتاج شعريّ جيّد.
وشدد: جميعنا لديه شقيقات وأشقاء من أم واحدة وأب واحد، ونعيش أو كنا تحت سقف واحد، ومع ذلك لا أحد منّا لديه ذات الأحلام التي للآخر، فلكل جسد حياته الخاصة وعالمه الخاص وفضاؤه الخاص، لكن على المستوى الثقافي فكلّنا نشترك في ثقافة واحدة وقيم واحدة، الشعر لا يجيء من هذه القيم المشتركة، وإنما يجيء من فضاء الجسد المُفرَد.. ليس هناك جسد يشبه جسداً آخر، وهنا مكان الشعر، وليس المشترك، وهنا مكمن الشعر وليس المشترك، وهذا ما يغيّر الحياة الثقافية، ويغيّر حياة الإنسان، ويبتكر لغة جديدة.
وأكد أدونيس: الحديث عن الشعر كما هو الحديث عن الحبّ.. إذا مات الحبّ يموت الشعر، فالشعر هو الطاقة الأولى الكيانيّة التي يستطيع الإنسان أن يعبّر بها عمّا في أعماقه، لكن طبعاً هناك عقبات تقف في وجه القدرة على هذا التعبير، وهي عقبات تأتي من الثقافة، لذا فلا خوف على الشعر ما دام الحبّ موجوداً، وما دام الموت موجوداً أيضاً، فالشعر حيّ كالإنسان حيّ، لكن ليس هناك شعر في الفضاء، بل هو شاعر، وبقدر ما يكون شخص الشاعر خلاقاً وقادراً على اختراق الحواجز والحجب والعقبات يستطيع أن يبدع عالماً جديداً، وما أقوله هنا عن الشعر العربي ينطبق على الشعر في العالم كله.
وختم: الإنسان ككينونة في العالم كله يعيش أزمة كبرى حيويّة، وهنا لابد أن يكون الشعر في أزمة، ولكنها ليست أزمة انقراض (…) علينا عدم الفصل بين مستقبل الشعر عند العرب وبين العرب أنفسهم، فإن مات ماتوا، وهناك محددات لذلك أولها مستقبل العلاقة مع اللغة الأم، وللأسف، ليس هناك شاعر في العالم يخطئ عند الكتابة بلغته الأم إلا العربيّ، وهذا الأمر كارثي لا يمكن تجاهله ويجب الالتفات إليه، وثانيها يتمحور حول علاقتنا بموروثنا الشعري بعين الانقلابات المعرفية والجمالية الكبرى في العصر الراهن، فشعراؤنا نادراً ما يقرؤون بلغتهم الأم، ومنهم على سبيل المثال، شعراء كالمعري وأبو نوّاس، وأتحدث عن قراءة كاملة، فهم من بين الشعراء ذوي العمق الشعري والإنساني أيضاً، فالمعري وأبو نواس يتم إقصاؤهما حتى من المناهج المدرسية والجمعية، ويتم حصرهما في زاوية بعينها، كما في حال الربط بين أبي نواس والمجون، بينما هو من أهم من كتب المدينة شعراً وكتب عن تلك العلاقة الفلسفية بين ما هو زائل وما هو أبديّ، أما المحدد الثالث والأخير فيتعلق بعلاقة الذات بالآخر، مستهجناً من تلك “التبعية شبه العمياء للآخر الأجنبي”، ومن اتباعه “ليس في إبداعاته بل في إنتاجه الاستهلاكي”
تجريب أم تخريب..؟
بغض النظر عن موقف أدونيس وتعليقه الآمال على المشهد الشعري النسوي فإن ثمة من يرى أن التجديد الذي قادته ذات يوم نازك الملائكة وبدر شاكر السياب ومن قبلهما السوري خليل شيبوب لا يتوقف على صوت أنثوي أبداً.
وربما حسب هؤلاء عوَّل أدونيس على عدة أصوات نسوية لكنه لو كان يتابع خراب الشعر في ما يسمى منتديات يديرها رجال وأبطالها النساء ممن لا يعرفن ألف باء اللغة، وجواز مرورهن والترويج لهن هو الصورة الجميلة وغير ذلك.. لو تابع هذا لرأى خراب الذائقة الشعرية يتم في المختبر النسوي.