عمار النعمة
لاأعتقد أن أحداً من أبناء جيلنا، جيل الثمانينات لم يقرأ للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي (ذاكرة الجسد أو الأسود يليق بك أو فوضى الحواس) وغيرها واستمتع بسردها اللافت والممتع، فهي التي قال عن روايتها( ذاكرة الجسد) الشاعر الكبيرنزار قباني: “هذه الرواية لا تختصر ذاكرة الجسد فحسب، ولكنّها تختصر تاريخ الوجع الجزائري، والحزن الجزائري.
اليوم وأنت تقلّب صفحات الأدب تشاهد منجزاً جديداً لتلك الكاتبة المبدعة بعنوان: (أصبحت أنت)، فتذهب مسرعاً لتبدأ بعملية التنزيل من الانترنت لتقرأ وتطلع في ظلّ الظروف الصعبة التي لا يمكن أن تحصل من خلالها على الكتاب بالشكل اليسير، فلا متعة تفوق متعة الكتاب، لتجد عملاً يطرح أسئلة كثيرة والأهم يتحدث عن السيرة الذاتية الشخصية ثم التوثيق لمرحلة مهمة من التاريخ.
في كلّ مرة تكتب بها أحلام مستغانمي نشعر أنها تسعى إلى تطوير خطابها السردي، وهذا ما لمسناه في روايتها الجديدة التي صاغتها بطريقة جذابة جمعت فيها مقتطفات من سيرتها ومذكراتها وبداياتها مع الشعر وبرنامجها الإذاعي الذي أطلقها في الجزائر، لتنتقل إلى علاقتها بوالدها المناضل الجزائري وبوالدتها وباللغة العربية ووعيها على القضايا الوطنية في الجزائر التي حققت استقلالها.
بلاشك الرواية ممتعة لجهة أنها تحمل في مضامينها نصاً محمّلاً بتفاصيل عائلية واجتماعية ووطنية، وفيه تكريمٌ جميل وسام للأب، فوالد الكاتبة صاحب الدور الأكبر في تنشئتها وتعليمها ودعمها نفسياً ومعنوياً وهذا يظهر جلياً في الرواية، كذلك تطرقت لمرحلة نهاية الاستعمار الفرنسي وما تلاه سياسياً واجتماعياً.
وهنا نقتبس من الرواية ماقالته لوالدها الذي تخاطبه :
بعدكَ أصبحتُ أنت..
أعدتُ اقتراف كلِّ حماقاتك..
خسرتُ بسخاء..
وبسخاءٍ تهكَّمت على خساراتي..
أكرمتُ أعدائي لأنَّ لا قصاصَ أكبرَ من الكرم..
أحببتُ الحياةَ كما لو كانت رجلَ حياتي، لأنّك أحببتَها كما لو كانت أنثاك..
وضعتُ شرطًا لقلبي ألَّا يحبَّ إلّا رجال المواقف، لأنَّ الحبَّ عندك كان قضية..
لم أسأل يوماً أحداً عن ديانته..
لأنّك لم تسألني يوماً إلَّا عن أخلاق من عرفتُ..
عندما دخل والدها المصحة، كانت تأخذ لوالدها حلوى «الميل فاي»، وعن طعم هذه الحلوى يقول والدها «تدرين… الإشكالية في كلّ ما هو حلو، هي أننا حال الانتهاء منه نحتاج إلى الماء، وعندما يذهب المذاق، نريد المزيد منه».
بأسلوب واقعي ربطت عناصرها ببنائها الفني للخروج بأهم النتائج والاستنتاجات، كما بحثت في الشخصيات واللغة الروائية بسردها الجمالي، وزخمها المعرفي، وأسئلتها الواقعية، وبالأساليب التي اعتمدتها لاستخلاص ما استخلصته بجرأة وموضوعية.
بصيغة روائية جذابة جديدة متجددة كانت أحدث إصدارات الأديبة الجزائرية أحلام مستغانمي (أصبحتُ أنت) النص الذي لم يتوقف عند كونه سيرة روائية يتداخل فيها الواقع، بل تتجاوزه إلى التوثيق لمرحلة مهمة من تاريخ الجزائر بعد الاستقلال.
تحدثت الكاتبة في سيرتها، كيف حوربت كشابة عندما كانت تقدّم برنامجاً إذاعياً شهيراً في ذلك الوقت، يحمل عنوان «همسات»، وكل ما صادفته من عراقيل في بداية طريقها كطالبة متفوقة منعت من إتمام دراستها العليا، رغم أنها كانت ضمن أول دفعة معربة في الجزائر المستقلة.
نقرأ في الرواية عن مصر والمرحلة الناصرية، وعن عبد الحليم حافظ، فوثقت بحبكة متينة تاريخ الجزائر انطلاقاً من عدة تواريخ وأحداث متداخلة.
نقرأ العديد من الإشارات لجرائم فرنسا ضد الجزائريين أقلها ضرراً الألقاب السيئة التي منحتها فرنسا للجزائريين، وتلك الألقاب كان فيها بتعبير مستغانمي «اغتيال معنوي للإنسان الجزائري.»
وذكرت في السيرة ثلاث فرنسيات، كلّ واحدة منهن تمثل نوعاً معيناً من الفرنسيين.
هناك الفرنسية التي لم تغفر للجزائريين استقلالهم، والفرنسية التي حاولت أن تعيش مع الجزائريين، لكنّها لم تستطع. والفرنسية التي خافت وغادرت.
تحدثت مستغانمي أيضاً عن الفرنسيين الذين كانوا مع الجزائر فعُذّبوا وماتوا لأجلها، وقالت هؤلاء لا يجب أن يسقطوا من الذاكرة أبداً.
كلّ هذه الخلاصات بنتها مستغانمي على شواهد كثيرة أتت بها من الواقع وأوردتها بوضوح ودقّة مبتعدة عن الجفاف ليجد القارئ في تلك الرواية الكثير من المتعة والمرونة والجمال.
