الثورة _ عمار النعمة:
هو واحد من القامات الابداعية التي أثبتت جدارتها في العمل الثقافي والأدبي والفكري والإداري، مسيرة عطائه أثْرَتِ المكتبات وزادتها عطاءً وغناء وخصوصاً ترجماته وأبحاثه وجوائزه التي حصل عليها…فكان الحصاد وافراً بالنسبة لنا جميعاً، إنه الدكتور ثائر زين الدين الشاعر المرهف والكاتب الرصين والباحث العميق الذي استضافته جريدة الثورة فكان الحوار المكثّف الآتي:
* الدكتور ثائر زين الدين بين الترجمة والبحث والشعر أين تجد نفسك ؟
** لعل هذا السؤال أول ما يخطر ببال القارئ حين ينظر في تنوّع مجالات كتاباتي، منذ بدأت أنشر منتصف ثمانينيات القرن الماضي حتى اليوم… نعم سؤالك في مكانه أين يجد هذا المبدع نفسه بعد نحو تسع مجموعات شعرية وأربعين كتاباً مترجماً واثني عشر كتاباً في النقد الأدبي… وسواها من الأعمال في بعض وجوه المعرفة..
الحق أنني أجد نفسي في كل هذه الأعمال، مع أن الشعر هو الحقل الأقرب إلى نفسي، والذي أحس روحي تحوّمُ في وديانهِ وفوق قممه كطائر الصدى الذي يزقو باحثاً مُفتِّشاً عن ضالتهِ دون أن يشبعَ نهمه أي شيء يراه….
شعري هو حياتي وحيواتُ كثيرين ممن حولي، هو فرحي وألمي وطموحي هو سجلٌّ فنيٌّ لخيباتي ونجاحاتي، هو ما تَرَكَتْهُ ظلالُ انكسارات البلادِ وأحلامها علي… لكن هذا لا يعني – كما أسلفت – أنني لا أجد نفسي مثلاً في رواية “الحياة والمصير” التي ترجمتها لفاسيلي غروسمان، أو في ” وحيداً وسط السهبِ العاري” الذي ترجمتهُ واضعاً فيه أجمل قصائد سيرغي يسينين، أو في مختاراتي من شعر بوريس باسترناك التي أسميتها “تدخلين كالمستقبل”..
* نلت العديد من الجوائز العربية والعالمية عن ابداعك، وأحدثت بعض الجوائز الأدبيّة والفنيّة خلال مسيرة عملك؛ كيف تقيم تجربة الجوائز؟
** نعم ، حدث ذلك، مع أن الجوائز الأدبية لم تكن غايتي في يوم من الأيام، ولم أحفل بها كثيراً، مع أنني أنشأتُ وأسهمتُ في إنشاء كثيرٍ من الجوائز على الساحة السورية وأشرفت عليها – وربما ساعدني في ذلك عملي في وزارة الثقافة السوريّة- ومنها: جائزة المزرعة للإبداع الأدبي والفني (١٩٩٨-٢٠١٢) التي كانت ثمرة تعاونٍ جميل بين القطاعين الحكومي والأهلي في بلادنا، وجائزة عمر أبي ريشة للشعر العربي(٢٠١٢-حتى اليوم)، وجائزة ابن طفيل للقصة القصيرة ( ٢٠٠٦-٢٠٠٧)، وست جوائز مهمة جداً في الهيئة العامة للكتاب، أنا سعيدٌ بأنها مستمرة منذ عام ٢٠١٧ وتتطوّر يوماً بعد يوم، وكانت غايتي البعيدة النهوض بالحالة الثقافية الإبداعية في بلدنا؛ والارتقاء بالمشهد الثقافي الذي لم يكن فقيراً في يومٍ من الأيام.
وكما تفضلت أنت ثمة جوائز فزت بها، من أحبها إلى قلبي جائزة مجمع اللغة العربية في دمشق (جائزة خليل مردم بيك لنقد الشعر العربي المعاصر)، وجائزة الريشة الذهبية لروسيا الاتحادية عام ٢٠١٦ : بميدليتين ذهبيتين هما: (ميدالية ليف تولستوي و وليم شكسبير) عن ترجماتي من الروسية إلى العربية… وثمّة جوائز أخرى معنويّة لا بعد ماديّ لها؛ منها “جائزة فلاديمير سوسيور” للشعر في أوكرانيا عام 2018 إن لم تخنّي الذاكرة، لكنني أصارحك القول إنني على ثقة تامة من أن جوائز الكون كلها لا تخلقُ مبدعاً… المبدعُ يولدُ وينضجُ ويطرحُ نتاجه المتميّز وفق قوانين الابداع ذاتها؛ بمعزلٍ عن أي شيءٍ، وتأتي الجوائز فتتقرّبُ منه وتأخذ قيمتها من بهاءِ نتاجه، من إنجازاته… ولكنها- إن شئنا الإنصاف- بوجهٍ عام تساعدُ
المبدعين في الحياة والمعيشة إن كانت مجزية ماديّاً، وتعبر عن رقيّ المجتمعات والبلاد التي تُحدثها وترعاها… وقد تستغرب لو ذكرتُ لك عدد بعض هذه الجوائز في هذا البلد الأوربّي أو ذاك… وطبيعة هذه الجوائز وقيمها التي قد تبدأ من كأسٍ نبيذٍ فاخر يقدّم للمبدع كل يوم لعامٍ كاملٍ مثلاً وصولاً إلى آلاف الفرنكات أو الجُنيهات وسواها…
وأنت تذكر بالتأكيد أن كثيراً من المبدعين بالمقابل رفضوا استلام الجوائز التي مُنحت لهم… وكانت مواقفهم مختلفة منها انطلاقا من وجهاتِ نظرٍ فكريّةٍ أو سياسيّةٍ أو قوميّةٍ…وما إلى ذلك… وهذا أمر يطول الحديث فيه…
* مجموعتك وردة في عروة الريح تُرجمت إلى عدة لغات ما الذي يميزها عن غيرها من أعمالك الاخرى؟
** من الصعب على الشاعر أن يحكم على نتاجه، وينبغي ألا يفعل، فهذه مهمة الناقد والقارئ، المجموعةُ، أعني ” وردة في عروة الريح”، تضم قصيدة تشغل مجمل مساحة الديوان وهي :” مشاهد سورية” وتتألف من ٣٤ مشهداً على ما أذكر استعملتُ فيها تقنيّة يمكن أن أسميها “عين الكاميرا”، بحيث يظهر المشهد كما تقدّمه هذه العين التي تبدو على الأغلب محايدة؛ لكنها بالتأكيد ليست كذلك… رسمت هذه القصيدة مشاهد من حال البلاد منذ عام ٢٠١١ حتى سنة نشر المجموعة… ولعلها كانت هجاءً للحرب وويلاتها ونتائجها على البشر والحجر…
وقد ترجمت إلى الروسية، ونالت وسام بطل الاتحاد السوفييتي “فلاديمير كاربوف”؛ وهو وسام مازال يُمنح للأعمال الروسية والأجنبية التي تتناول بطولات الشعوب في الدفاع عن نفسها ضد المعتدين والغزاة، والتي تمجِّد الحياة وتهجو الحرب…لكن تُرجمت قبل هذه المجموعة بثلاث سنوات مجموعة أخرى عنوانها: “أناشيد السفر المنسي”، كانت قد صدرت عن وزارة الثقافة السورية وكان للأستاذ أنطون مقدسي يدٌ بيضاء في نشرها عام 1998 .
* في الدراسات النقدية تختار موضوعات مختلفة عما يتناوله كثير من النقاد ماذا عن هذه التجربة؟
** بدأت هذه التجربة جديّاً مع كتابي “أبو الطيب المتنبي في الشعر العربي المعاصر” الذي صدر عام 1999 وكان قد نشر من قبلُ مُنجّماً في بعض الدوريات… وقد تحدثت فيه عن استلهام هذه الشخصية الجبّارة سيرةً وشعراً ومواقفَ وما إلى ذلك في نتاج كثير من شعراء العربية منهم: عمر أبو ريشة وأدونيس ومحمد عمران والأخطل الصغير والقروي ومحمود درويش وفايز خضّور وعبد الله البردوني وسليمان العيسى وأمل دنقل وبيان الصفدي و غيرهم… وربما كان الأول في بابه تلته كتب لنقاد آخرين منهم عبد الله أبو هيف “قناع المتنبي”… وغيره في الأردن وفلسطين…ومصر، وقد أسعدني انتشار هذا الكتاب الذي طبع ثلاث مرّاتٍ: في دمشق مرتين في عامي: 1999 و2012 وفي الجزائر عام 2017.
من كتبي الأخرى: “قارب الأغنيات والمياه المخاتلة-توظيف الأغنية في القصة القصيرة والرواية”، الذي صدر عام ٢٠٠١ وتناولتُ فيه الحضورين الفني والمعنوي للأغنية في النصوص السردية، وتأثير ذلك على بنية العمل السري وما إلى ذلك. وكان ثمة أعمال أخرى مختلفة لم تكن أعمالاً مدرسيّة أو حتى أكاديمية بقدر ما كانت نابعة من أعماق الإبداع الأدبي، أعني بذلك أنها لا تتناول موضوعاتٍ تقليديّة مُجترة أحياناً بقدر ما تلتفتُ إلى المُغيّب أو الغائب أو ظواهر أدبيّة لها خصوصيتها، فتلتقط ما قد يراه كثيرون دون أن يكتشفوه أو ينتبهوا إلى حضوره ومن ذلك مشروعي في دراسة العلاقة بين الفن التشكيلي والأدب؛ فصدر كتابي الأول في علاقة الفن التشكيلي بالشعر عام ٢٠١٢ تحت عنوان: “ضوء المصباح الوحشي-في العلاقة بين الشعر والفن التشكيلي”؛ وصدرت طبعة ثانية مزيدة منه، وافية عام ٢٠٢٠ عن وزارة الثقافة السوريّة. أما العلاقة ما بين الرواية والفن التشكيلي فقد رصدتها في كتابي:”تحولات شجرة الزيزفون الضائعة- في العلاقة بين الرواية والفن التشكيلي”، وقد صدر الكتاب أيضاً عن وزارة الثقافة السورية مطلع عام ٢٠١٥، وبدأت تتلوه دراسات وأطروحات جامعية انصبت على الموضوع نفسه ليس في سورية فحسب بل في بعضِ البلدان العربية…إلى غير ذلك من الأعمال التي كانت تلتقط موضوعاً بكراً أو فكرة جديدة لم يعالجها النقد من قبل، أو أنّه عالجها قليلاً وبغير عمق… ككتابي:”شخصية يهوذا الأسخريوطي في الرواية” وتنحو منحىً تطبيقيّاً.
* كيف تقيم المشهد الثقافي العربي عموماً والسوري خصوصاً لاسيما انك كنت تدير لسنوات اهم مؤسسة ثقافية سورية؟
** من الصعوبة بمكان أن تقيّم المشهد الثقافي السوري هذه الأيام، فمن يعتقد أن هذا المشهد لم يتأثر خلال سنوات الأزمة التي بدأت منذ نحو ١٣ سنة فهو مخطئ، لقد عانت الثقافة وعانى المثقفُ والمبدعُ كما عانى السوريون جميعاً، فلن أضيف جديداً لو أخبرتك إن مبدعين اغتيلوا على أيدي الظلاميين، وآخرين اغتيلت أحلامهم، وقد أصدرتُ عملاً ضمَّ دراسةً ومختاراتٍ شعريّة لنحو 38 شاعراً سوريّاً حمل عنوان “من ديوان الجرح السوري”، وقد وزِّعَ مجاناً مع مجلة الموقف الأدبي التي يُصدرها اتحاد الكتاب العرب عام 2016 … ولكن الإبداع لم يتوقف البتة… وجذوة الخلق الفني لم تنطفئ، ويُساعدني على إطلاق هذا الحكم عملي في الهيئة العامة السورية للكتاب نحو ست سنوات؛ إن عدد الأعمال في التأليف والترجمة وأدب الطفل والتراث لم يتراجع إلا قليلاً، بل زادَ في مجال الترجمة مثلاً بعد أن أطلقنا المشروع الوطني للترجمة ومجلة “جسور ثقافية” عام ٢٠١٧… وكنا سنوياً نستقبل عدداً مقبولاً من الأعمال الأدبية، ونُصدر ما لا يقل عن 200 كتاب وقد بلغ عدد تلك الكتب في أحد تلك الأعوام 286 كتاباً، وهذه أرقام ليست قليلة في بلد تعيش حالة حرب، والمؤشر الآخر هو عدد الأعمال الجيّد التي كانت تدخل مسابقاتنا الأدبية المختلفة: جائزة سامي الدروبي للترجمة-جائزة حنا مينا للرواية- جائزة عمر أبو ريشة للشعر… وغيرها من الجوائز، مع أن القيمة المالية لتلك الجوائز كانت محدودة بسبب وضع البلاد طبعاً… وهذا ما كان يدفع كثيراً من المبدعين السوريين للمشاركة في جوائز عربية ويفوزون بها، والأمثلة كثيرة… زد على ذلك إن نحو 12 مجلّة أدبيّة وفنيّة وموسيقيّة وتراثيّة مثل: (المعرفة وجسور ثقافية وأسامة وشامة والخيال العلمي والحياة المسرحية والحياة التشكيليّة والحياة الموسيقيّة وجلة الآثار وسواها) لم تتوقف عن الصدور حتى خلال جائحة كورونا.