الثورة _ هفاف ميهوب:
إن تحدّثنا عن الصمت، نقول إنه إنصات الإنسان لصوتِ أعماقه المتعبة، في عالمٍ بات مملوءاً بالضوضاءِ التي تمنعه من الإنصات إلا للثرثرةِ الجاهلة.. بمعنى آخر، هو صوتُ الكلمة التي تنصت لألمها، إن أُدرجت سهواً في قاموسٍ مملوء بكلماتٍ، لا تحمل قناعتها ولا لغتها.. هكذا نتحدّث عن الصمت، وحتماً سيختلف الحديث لدى عالم اجتماعٍ، يبحثُ ويحلّل ويرى، مارآه «دافيد لوبروطون».. الأنثربولوجي الفرنسي الذي ربط حديثه عن الصمت بالحداثة والتطوّر، معتبراً أن الصمت الوحيد الذي تعرفه يوتوبيا التواصل: «عطل الآلة وخللها، وتوقّف تواتر الكلام، وهو توقّف للطابع التقني، أكثر منه انبثاق لطويّةٍ ما».
إنه الصمت الذي وجده، يؤكّد مقدار المجهودِ الذي يبذله الإنسان، للوصول إلى المرتبة المثلى في التواصل الذي أشعره، بأن “للصمتِ صدى يشبه الحنين، ويتطلّب الإنصات غير العَجِل، لهسيسِ العالم”.. لاشكّ أن رؤيته هذه، قد جعلت من الصمت حالة محيّرة وإشكالية، فهو ورغم اختراقه اليومي لحياتنا، إلا أننا لانشعر به، ولا بأثره الذي قد يكون مُقلقاً ومرعباً، أو مُريحاً ومهدّئاً للنفسية.هكذا يتحدّث الأنثروبولوجي عن الصمت، وهكذا يراه في زمن الحداثة، حيث الكلمة بلا دلالة، لكثافة الكلمات المتداولة، وحيث يضطرّ الإنسان للإنصات، ما يجعل التواصل يمتدّ، وهو امتدادٌ كلّما زاد أكثر، ازداد النزوع إلى الصمت، بانتظار الصدى الأكبر.يحصل ذلك، لأن الإنسان التواصلي ينتظر بصمتٍ غير فعّال، ردود الأفعال أو الأخبار أو المعلومات التي عليه تلقّيها، وهو ما قال عنه “لوبروطون”: “سماع ذبذبة الأشياء، أو الاستجابة لأثر الحدث، قبل أن يعوضه حدث آخر، ثم آخر، ما يجعل الصمت لا الصخب، هو العدوّ اللدود، بل المنفى للإنسان التواصلي نعم، الحداثة جعلت العالم يتكلم دون أن يفكّر، فالتفكير يحتاج إلى الصبر والتأنّي، والتواصل يحتاج للأكثرية المستعجلة.. يحتاج للكلامِ الذي يهدر دون نتائج تذكر، ودون أن يكون له رسالة، سوى أن العالم مازال موجوداً ويتواصل .. هي فعلاً مشكلة، لكن المشكلة الكبرى، هي أنّ العالم يتواصل بقوة ويتلاقى بشكل ضعيف، وهو أمرٌ يلغي فائدة كلّ الكلام التواصلي، لأنه يبقى وعلى رأي “لوبروطون”: “الكلام من غير حضور، يبقى بلا أثرٍ ملموس، على سامعٍ لا وجه له”..بيد أن المفكر السويسري “ماكس بيكارد” الذي انشغل بالبحث عن جدوى الكلام، في عالمٍ عبّر فيه الإنسان عن ذاته من خلال اللغة، كان قد توقع بأن تتحوّل هذه اللغة، إلى أداةٍ تصرع الإنسان بضجيجها، مثلما العالم المأخوذ بها.. العالم الذي حجّم منطق الحياة فينا، بعد أن بات كلّ الكلام الذي ننطقه أو نسمعه، لا يقودنا إلا إلى ذواتنا المنفصلة عن الألفة والأحاسيس والعقلانية، والمتماهية مع العزلة والصمت والفردانية الإنسانية. إنه وكما سماه “عالم الصمت”. العالم الذي يعيش الإنسان فيه بلا توازن، والذي أصيب فيه وبسبب الحروب والخراب والتدمير، وأيضاً التطور الحضاري الذي فرض عليه مواكبته، بخللٍ جعله يعجز عن فهم عالمه الداخلي، مثلما العالم الخارجي الذي ضاق أفقه واتّسعت فضاءاته. أعتقد بأن أفضل ما يمكن قوله تعبيراً عن كلّ ما ذكرناه، ما قاله “بيكارد” عن هذا العالم الذي بات الإنسان ولغته أكبر ضحاياه:”يبدو كلّ ضجيج العالم اليوم، كطنينِ حشراتٍ صرفٍ، على ظهر الصّمتِ العريض”..