الملحق الثقافي- رفاه الدروبي:
شهد الوسط الثقافي والإبداعي السوري والعربي نقصاً ملحوظاً في قوافل الحضور، والأسباب كثيرة أهمها تراجع الدوريات من مجلات وصحف، والتوقف عن طباعتها ورقياً، فغابت الحميمية بين الورق والقارئ، وأصبح لزاماً عليه التوجُّه إلى الأجهزة الرقميَّة لمتابعة الأخبار وحتى الكتب الإلكترونية؛ لكن هل مازال المشهد الثقافي موجوداً بتاريخه وصفاته وضروراته؟
غنيَّة بتراثها
الأديبة شذا نصَّار المدني قالت: عندما نتحدَّث عن الواقع الثقافي في سورية لابدَّ من استرجاع تاريخها المرتبط بجغرافيتها المتميزة، فموقعها يتوسَّط العالم القديم، ومازال لاعتبارات كثيرة. برنار لويس المتخصِّص في تاريخ الإسلام عبَّرعن نظريته في أنَّ مَنْ يريد حكم العالم عليه أن يسيطر على منطقة الشرق الأوسط ويخصُّ سورية التاريخيَّة كونها عقدة الوصل بين القارات الثلاث، ما جعلها النقطة الأهم في التبادل التجاري والثقافي في العالم القديم والحديث، لافتةً إلى أنَّ القوافل العابرة شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً نقلت بين ما حملت من بضائع متنوِّعة ثقافات البلاد المارَّة بها، من فنون وعادات وتقاليد مختلفة، على اختلاف مصادرها، إضافة إلى فعل غزاة مرّوا بها رغم جبروتهم فكانت سورية جسراً للتثاقف العالمي، ما أغنى المخزون الثقافي السُّوري، قيمةً وتنوُّعاً وجمالاً، وصار الفسيفساء رمزاً يُميِّز تنوّعها البيئي والبشري والقومي والديني والثقافي ووسم تنوّع كلّ مدينة أو منطقة في سورية بخصائص من الفن والأدب والتراث، بل ومن التقاليد والعادات واللهجات، حتى لا نستفيض في التاريخ باعتباره لاتتسع له الكتب عن ثقافتها، ونستمد الواقع الثقافي الحالي منه، ويمكننا القول: إنَّ سورية الكنز الثقافي للعالم من الأبجدية الأولى إلى المدوّنة الموسيقية الأولى إلى مكتبات إيبلا إلى المتاحف الطبيعية، لافتةً بأنَّه رغم الكبوة المارَّة بها منذ عشريَّة النار حتى اليوم، تركت آثاراً سلبيَّةً على نواحي الحياة كافَّةً شملت الاقتصاد والعلم والصحة؛ إلا أنَّه لم يصب مقتلاً في ثقافة تميل للتماثل والشفاء والتعافي قبل الميادين الأخرى.
كما بيَّنت بأنَّ دور الثقافة قلَّ عددها؛ لكن لم يتوقَّف نشاطها في أحلك الظروف، وتجلَّت في مسرح الشارع ، والفن التشكيلي من رسم ونحت، وارتفع في كلٍّ من مكتبة الأسد ودارالأوبرا اللتين استقطبتا النخب الثقافية من فنانين، وأدباء وروّاد، وسعتا إلى نشر الثقافة بأرقى صورها الشرقيَّة والغربيَّة فقدَّمت كلَّ نشاطاتها بشبه المجان لشعب متعطِّش لنهل الثقافة والعلم، مع انكفاء السُّبل الأخرى بسبب الحصار والمقاطعة الجائرة المفروضة عليه، والحفاظ على التراث كان من الأهداف الساعية لها الخطّة الاستراتيجية للثقافة حفاظاً على الهوية الوطنية، فالتراث المادي دُمِّر في حلب و تدمر ودير الزور وغيرها، وسيبقى بإصرار أبنائها أوابد لاتفنى ولا تُعوَّض؛ أمَّا التراث اللا مادي فيمكن أن تذكر فيه قامات فنيَّة وثقافيَّة، وعادات وأعراف مُتجذِّرة في أعماق الأرض وفي وجدان شعوبها.
ثم أوضحت بأنَّ الثقافة السورية تحاول القفز والتخلُّص من مصاعب العقد الأخير، بعد أن هجرها فيه فنانون، رسامون، ممثلون، أدباء، سينمائيون، مفكِّرون يكون بالاعتماد على شباب طموح يحاول أن يرقى بالكلمة، بالدراما، بالفن التشكيلي، بالرواية، والأدب التوثيقي والتاريخي، ويمكننا أن نعتبر اللغة العربية العنوان الأكبر للثقافة تعتز به بلدنا، وبأنَّها الأولى والرائدة بإصرارعلى اعتماد تدريس العلوم والتكنولوجيا و الطب مع الأدب باللغة العربية، وستبقى سورية منارة ثقافيَّة لاتنطفئ مهما جارالزمن عليها فنجحت في إدراج القدود الحلبية على لائحة التراث الإنساني في اليونيسكو.
النقاش والحوار
من جهتها الكاتبة سهير زغبور رأت بأنَّه عندما نذكر مصطلح المشهد الثقافي سننفذ إلى كلِّ تشعباته وبسلاسة مطلقة نظراً لليونة مايتفرَّع عنه من مدخرات في بنوك التداول، ولعل أبرزها الحوار: إنَّها كلمة مفردة تجمع بين حروفها عشرات المصطلحات دفعة واحدة كأن نسأل أنفسنا ما الحوار؟
والسؤال جوابه بديهي لأنَّنا ندرك تماماً أنَّه الجلوس حول طاولة النقاش مع أطراف تصبُّ أفكارها في المنبع ذاته، أو في منابع تختلف عن أفكارنا للنقاش في نقاط الاتفاق والاختلاف والوصول إلى نتائج ترقى بالهدف والأفكار وبصيغة مطوّرة من أجل تحديث الثقافة.
كما بيَّنت بأنَّنا لانغالي حين نقول: إنَّ الحوار قديم جداً لكن ربما بدأ بصورة مختلفة عمَّا نراه اليوم منذ المناظرات الأدبيَّة أو الشعريَّة، وكانت حواراً غير مباشر في أسواق الأدب، تقام بمواعيد دقيقة واهتمام حقيقي وتطور عبر العصور ليتخذ صوراً متعددة ومختلفة عن ذي قبل من خلال الصالونات الأدبيَّة ومن ثم الندوات والاجتماعات المنوّعة لمثقفين كانوا يحملون في حقائبهم أثرى أنواع الورق المكتظ بأفكارهم، وفي لغتهم أعمق النقاشات الهادفة للوصول إلى تقاطعات فكرية،
وكلّ تلك الحقب الثقافية كان يتخللها النقد كحالة صحيَّة شريطة أن يكون بنَّاءً، بهدف النهوض بالواقع الثقافي وفتح آفاق أكثر إفادة للفرد والمجتمع؛ فالانغلاق والتعصُّب الفكري يكون بمثابة موت سريري للإبداع والفكر والثقافة إذاً لابدَّ من تلاقح العقول بغية إنتاج ثمار معرفيَّة تُغذِّي العقل والروح، لافتة بأنَّنا كجيل معاصر شهدنا وسنشهد تلك الحالة الراقية للحوار الثقافي في سورية من خلال الجهود المبذولة من قبل الجهات المعنيَّة سواء الأدبيَّة أم العلميَّة أم غيرها، نجد أنَّنا قطعنا شوطاً مهمَّاً في طرق الحوارونتائجه والنقد البنَّاء وثماره ومازالت الأهداف غزيرة والجهود حثيثة لنرقى نحو الأفضل.
تعزيز الحوار الثقافي
بدورها الكاتبة إيمان النايف تحدَّثت عن تأثُّر المشهد الثقافي في سورية بالحرب، وكانت النخبة الثقافيَّة متواجدة وحاضرة وظهرت لمسات من الإبداع؛ ولكن أحجمت بسبب أزمة الكهرباء والواقع المعيشي الصعب والتنقُّل وغياب الصحافة الورقيَّة، ما أدَّى إلى بُعد النشاط الثقافي عن الأوساط الاجتماعية الشعبية، وابتعد الناس عن غذاء الفكر والروح؛ واتجهوا لتأمين لوازم المعيشة الأساسية، مُنوِّهةً بأنَّ الأمل من الطموح موجود ،ولابدَّ أن يكون فاعلاً بشكل أكثر للناس بوسائل أوسع حتى المراكز الثقافية لم تستطع الوصول إلى القاعدة الشعبية وخاصة فئة الشباب المعتمد عليها فكان الحوار الثقافي أقل من الطموح، والمفروض أن يكون على امتداد الساحة الجماهيرية للوصول إلى المجتمع المحلي.
ثم أكّدت بأنَّ الثقافة نخبوية والحوارالثقافي للوصول إلى كلِّ الناس وتحريضهم لمجالات البحث والقراءة والاطلاع على الثقافة بشكل أوسع، مُشيرةً إلى خطوط حمروقضايا حسَّاسة وقيود اجتماعية وسياسية كانت تمنع الأفق الرحب الحرمن نقاشات كثيرة تخصُّ القضايا الثقافية والفكرية هوجمت من النساء على الساحة العربية حيث كانت رائدة بالفكر والحواروالنقاش لقضايا حسَّاسة.
واعتبرت بأنَّ الحوار والنقاش الثقافي ضروري ،لأنَّ معركتنا ثقافية وفكرية إلى جانب السياسية والعسكرية، وتنتج آثارها السلبية على المشهد الثقافي فنلاحظ ابتعاد الأغلبية من الناس عن متابعة الثقافة والحوار والإحساس بعدم جدوى وإحباط النفوس بعد الأزمة، ويقع على أصحاب الشأن الثقافي مسؤولية كبيرة في إعادة الحوار الثقافي لمستواه وقبوله ووصوله إلى أفراد المجتمع وإقناعهم لإعادة الثقة به، وخصَّت بالذكر جيل الشباب وضرورة التوجه لهم باعتبارهم الأمل بالبناء وإعادة الفكر الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، مُقترحةً على وزارتي الإعلام والثقافة تعزيز الحوار لأنَّ الحرب على هويتنا وتراثنا وانتمائنا ثقافية، والنتائج تنحصر بضعف انتماء فئة من الناس.
العدد 1175 – 23 -1 -2024