الملحق الثقافي- وفاء يونس:
كيف يكون الحوار الثقافي ووكيف يخرج بنتيجة تصل بنا إلى المكان الذي يتسع للجميع هذا ما كان قد بحثه المفكر العرربي كمال عبد اللطيف الذي قدم ورقة مهمة في هذا المجال، يمكن أن نقف عند قسم منها يقول عبد اللطيف:
نتجه في هذه الدراسة إلى بحث دلالة المفردة المركَّبة ثقافة الحوار، ولأنّ هذا البحث لا يتعلق بمصطلح يشير إلى مسألة واضحة ومرتبطة بسياق نظري مضبوط، فإنّ جهدنا البحثي سينصبُّ على تركيب جملة من المعطيات التي يمكن أن تساعدنا في الإحاطة بالمهمة التي رسمناها لأنفسنا ونحن نفكر فيه.
تنتمي مفردة ثقافة الحوار إلى دائرة المصطلحات الجديدة، وهي ترتبط بالأزمنة الحديثة، إنها تنتمي إلى سِجِلِّ المصطلحات المتعلقة بمقارنة الظواهر الاجتماعية والثقافية، الأمر الذي يجعلها لا ترتبط في صيرورتها التداولية بمعيار الخطأ والصواب الرياضيين، وهو المعيار الذي يسمح باندثار واختفاء بعضها وتولُّد بعضها الآخر، كما يسمح بتنويع وتوسيع أو تضييق الدلالة والمعنى فيها.
تتحوَّل المصطلحات في فضاء السجالات السياسية والتاريخية والثقافية إلى جزء من آلية الصراع القائمة في الواقع، فتمارس بواسطة عمليات الإبراز والإخفاء، وآليات الاستعمال والاستعمال المُغالِط، ما يسمح بإصابة مرامٍ وغايات لا علاقة لها بمعيار الصواب والخطأ، بل إنّ معايير أخرى تنتمي إلى مجال المصالح التاريخية المتصارعة، مثل النجاعة والجدوى والدور التاريخي، تسهم في تحويل المصطلحات والمفاهيم في المجالات التي ذكرنا، إلى أدوات مساعدة على تأجيج درجات الصراع أو التقليل منها.
إنّ ما يدفعنا لبسط هذه العناصر النظرية العامة في موضوع الكلمات والمصطلحات والمفاهيم، هو مسعانا الرامي إلى إبراز الدور الذي تلعبه المصطلحات والمفاهيم في الجدل السياسي والتاريخي. وإذا كانت المصطلحات والمفاهيم تنشأ كما بيَّنَّا باعتبارها أدوات للتواصل والحوار والتعقُّل، فإننا نلاحظ أيضاً أنها يمكن أن تستعمل كوسائل مناهضة لما ذكرنا، وخاصة عند استعمالها بالطرق التي تشحنها بدلالات مختلفة عن الدلالات التي آلت إليها في سياق صيرورة تشكلها، وهذا الأمر يفسّر في جانب منه كثيراً من التخندقات المذهبية الشائعة في المجال الثقافي، سواء في مجتمعاتنا وثقافتنا أم في باقي المجتمعات والثقافات.
ننطلق في عملنا هذا من الدلالة المفتوحة للمصطلح المركَّب ثقافة الحوار، وذلك بهدف تطوير النقاش في محتوى الدلالة المقرونة به وتوضيح سياقاتها الثقافية والمجتمعية. وضمن هذا السياق نشير إلى أننا لا نخوض في قضايا نظرية خالصة كما يمكن أن توحي بذلك بعض فقرات هذا التقديم، بل إننا نتجه لمقاربة وبناء مختلف قضايا ومحاور موضوعنا استناداً إلى جملة من المعطيات المرتبطة بسجالات ومعارك قائمة في الثقافة العربية اليوم، كما سيتضح ذلك عندما نغادر مقتضيات التقديم ونبدأ في تركيب محاور الورقة.
أمران اثنان ساهما في التوجه العام لمحتوى عملنا، يتعلق الأول منهما بدلالة مصطلح ثقافة الحوار، ونهتم في الثاني ببحث صعوبات غرس قيم هذه الثقافة في المشهد الثقافي العربي، في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى ثقافة الحوار وإلى مراجعة الذات.
تستوعب عملية توضيح هذين الأمرين جملة من المقدّمات الكبرى، التي رتَّبنا في إطارها مسعانا الرامي إلى إضاءة جوانب من القضايا موضوع البحث والنظر. أمّا أبرز هذه المقدمات فتتمثل في أنه لا حوار دون اختلاف وتعدُّد في وجهات النظر، في كلّ ما يجري بيننا وما يجري في العالم من حولنا، فنحن نفترض أنّ فهم وتعقُّل مختلف أوجه الحياة لا يمكن أن يحصل بطريقة واحدة، كما نفترض أنّ الحوار الناشئ في قلب المجتمعات يتيح إمكانية تقريب وتجسير الفجوات والاختلافات التي تنشأ بين الذين يتقاسمون الحياة في المجتمع الواحد.
ينتج عن المقدمة السابقة مقدمة أخرى مفادها أنّه لا حوار دون تسليم بالندية والتكافؤ بين المتحاورين، والمقدمتان معاً تعتبران من القواعد الكبرى المؤسسة لروح الفكر والثقافة في المجتمعات الحديثة، صحيح أنّ الاختلاف بين البشر قديم، وأنّ منظومات الفكر في التاريخ رُكِّبَت في إطاره، وصحيح أيضاً أنّ أفق المساواة شَكَّل ويشكل بؤرة ناظمة لتطلعات وأحلام البشر في التاريخ، إلا أنّ حديثنا عن هذه المقدمات في هذه الورقة يرتبط بفضاء التحديث المطلوب في مجتمعاتنا ومقتضياته، حيث أصبح مبدأ الاختلاف ومبدأ التكافؤ بمنزلة الأسّين الناظمين لكلّ مشروع ثقافي، وأصبحت قوة النماذج الثقافية تستند أولاً وقبل كلّ شيء على الجدارة المعرفية والتاريخية التي تؤهلها لتكون مقنعة وفاعلة داخل المجتمع، دون إغفال فضائل منتوج التفاعل الحاصل بفعل الحوار.
نعتقد أنّ ثلاثة أوهام كبرى تقف وراء التصامم والانغلاق السائدين في ثقافتنا، يتعلق الأمر بالأوهام العقائدية والنفسية والسياسية. تتمثل الأوهام العقائدية في التصورات والأفكار التي تحوِّل المذاهب والعقائد إلى دوغمائيات صنمية، حيث يتمّ استبعاد التاريخ وتحويل الأفكار إلى نماذج نظرية مغلقة، نماذج نُخاصم العالم بواسطتها وانطلاقاً منها، وهذا الموقف يحوّل العقائد والتصوُّرات من أدوات مساعدة على الفهم والإدراك والتعقُّل، ومعبرة عن تصوُّر الإنسان للعالم وللتاريخ، إلى أدوات مُرْبِكة لآليات الحوار والفهم والتواصل، إننا أمام مواقف تستبعد كما قلنا لغة التاريخ لمصلحة لغات أخرى تحتفي بالمطلقات وتعادي التاريخ. إنّ استبعاد لغة التاريخ والفكر التاريخي يعني استبعاد لغة النقد والنسبية، وهما من أكبر مكاسب التاريخ الحديث والمعاصر.
نتعلم من دروس الفكر المعاصر في الفلسفة والعلم أنّ المكوِّن الثقافي داخل المجتمعات البشرية عبارة عن مشروع في التعدد والاختلاف، مشروع في احتضان النقد والفكر النقدي وبصورة متواصلة. نتبيَّن ملامح ذلك في الأحاديث المتداولة في حواراتنا في موضوع الهويّة، فهذه الحوارات لا تكشف ما يبرز أننا فعلاً أمام حوار ينشئ القضايا ويفكر فيها، بل إننا أمام عمليات تصامم تتقن التّكرار والمراوغة. ولنأخذ كمثال على ما نحن بصدده ثنائية الإسلام والغرب، عندما تصاغ وتوضع كمرادف مكافئ لثنائية الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، تعبر عن توصيفات غريبة عن لغة التاريخ، المسلَّمة بالتداخل والاختلاط والترابط، وهي اللغة التي تتمّ بها المثاقفة داخل التاريخ. وكلّ استدعاء للمفاهيم والمصطلحات المذكورة باللغة المحنَّطة والمطلقة يُدخلنا في دوائر الحرب الدائرة بأشكال مختلفة بيننا وبين الآخرين.
أمّا الأوهام النفسية فتتمثل في نظرنا في المحن والأزمات المرتبطة بوعي الفارق القائم أو المتخيل بيننا وبين من نحاور، وهو وعي لا يقوم على نظرة تاريخية بل تشرطه أحكام مستمدة من أزمنة وعقائد لم تعد موجودة إلا في أذهاننا، بحكم أنها تغفل التحوُّلات التي جرت في العالم، ونفترض أنها صُوَّر تَمَثُّلِنَا لكلّ ما يجري في العالم أمامنا.
يترتب عن الأوهام النفسية مجموعة من الضغوط التي لا تسمح بالتواصل الإيجابي والحوار القادر على بناء جسور التفاهم. ولن نتمكن من تفتيت الضغوط المترتِّبة عن ذلك، إلا بتركيب مصطلحات مفاهيم قادرة على إنجاز التواصل المساعد على بلورة ممكنات التوافق التاريخي، الذي يجعل الجميع يشتركون في صناعة المستقبل.
نحن إذن في حاجة إلى تعميق معركتنا الذاتية مع ذاتنا التاريخية، لنتمكن من استيعاب أفضل لمكاسب التاريخ المعاصر. ولعلنا بهذا نمهِّد لبلورة قواعد وقيم ثقافة الحوار في ثقافتنا.
أمّا الأوهام السياسية القائمة فيمكن تعيينها في الخلط بين مستويات الاختلاف والتناقض، المنتشرة بين المجموعات الثقافية والسياسية في مجتمعاتنا. نعم هناك خلافات ثقافية سياسية عنيفة بيننا، وهي خلافات ترتبط بقضايا محددة من قَبِيل موضوع الهويّة والمسائل المتصلة بموقفنا من التراث ومن الماضي، وكذلك موقفنا من التوافقات في المجال السياسي، حيث تعمل تيارات فكرية وسياسية على مواصلة استحضاره بمنطق ولغة الكمال، محاولة ابتكار أسماء ومصطلحات لا علاقة لها بمسارات الصراع القائمة بيننا، وتخوض في ملاسنات تعيدنا إلى أزمنة موغلة في القِدم، مستخدمة مرجعية ثقافية غريبة عن حاضرنا ومستقبلنا. ولهذا السبب يكون من الضروري في فهم وتعقُّل الظواهر الثقافية وسجالاتها، التمييز في موضوعات الخلاف والحوار بين المعطيات في مستوياتها القريبة والبعيدة، حتى لا تنفلت الوقائع واللغات وتتحول المصطلحات إلى أدوات حربية، يصعب الحدّ من مفعولها في المدى الزمني القريب، وهو الأمر الذي يقتضي مزيداً من الحذر عند محاولة فهم معطيات التاريخ في أبعادها المختلفة.
العدد 1175 – 23 -1 -2024