الثورة – ترجمة هبه علي:
انعقد الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي 2024 وسط حالة التغيرات وعدم الاستقرار التي يشهدها العالم. تحت شعار “إعادة بناء الثقة”، يطلب دافوس 2024 من كل دولة مسؤولة توفير المزيد من الزخم لتعافي ونمو الاقتصاد العالمي.
الثقة تبنى على المصداقية. إن كافة المتحدثين الرئيسيين في دافوس يدركون بوضوح أن الخطب وحدها لا تشكل ضمانة لثقة جمهورهم. ولا يمكن إعادة بناء الثقة بين الدول أو الكيانات أو الأفراد إلا بعد ظهور المصداقية.
ومع ذلك، فإن بعض الاقتصادات الكبرى أصبحت أقل مصداقية، وسلوكها المتمثل في “الحد من المخاطر” تجاه البلدان الأخرى، وتعطيل سلاسل التوريد العالمية، وبناء ساحات صغيرة ذات أسوار عالية، وما إلى ذلك، يؤدي في الواقع إلى خلق الانقسام وانعدام الثقة حول العالم. وقد لا تكون هذه البلدان شركاء جديرين بالثقة للنمو العالمي. وحتى أداء اقتصادها المحلي قد لا يكون الأمثل كما يزعمون.
خذ الولايات المتحدة على سبيل المثال. وفي الصورة الأكبر، تبدو البيانات الاقتصادية الأمريكية في العام الماضي قوية بشكل ملحوظ، مع العديد من الإنجازات بما في ذلك الارتفاع المستمر في تقييمات سوق الأوراق المالية، والانخفاض المستمر في معدلات البطالة، ونمو الناتج المحلي الإجمالي السريع في سياق رفع أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي.
بهذه النتائج التي تبدو جيدة، تسعى إدارة بايدن إلى تتويج نفسها بأنها صانعة «المعجزة الاقتصادية» في التاريخ الأميركي. لكن إذا نظرنا بعناية إلى البيانات، فمن السهل أن نجد بعض التناقضات أو حتى الأخطاء، التي شوهت مصداقيتها.
ويشكل التصنيع ركيزة مهمة لصعود الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عالمية. وعندما تولى بايدن منصبه، وقع على عدد من مشاريع القوانين لدعم تنشيط الصناعة التحويلية المحلية.
في عام 2023، دخلت الصناعة التحويلية في الولايات المتحدة ما يسمى “الدورة الفائقة”. وفقًا لإحصائيات البيانات الاقتصادية للاحتياطي الفيدرالي (FRED)، حيث ارتفع الاستثمار الصناعي الأمريكي من 133.2 مليار دولار أمريكي في نهاية عام 2022 إلى 194.3 مليار دولار أمريكي في أيار 2023، مما أدى إلى معدل نمو قدره 0.4٪ تقريبًا في النصف الأول من العام.
ولكننا نعلم جميعاً أنه في ظل ظروف الإنتاج الحالية، فإن النمو الاقتصادي، وخاصة التوسع في التصنيع، عادة ما يكون مصحوباً بزيادة في استهلاك الكهرباء.
وفي النصف الأول من عام 2023، زاد الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بنسبة 2.3%، لكن استهلاك الكهرباء الوطني انخفض بنسبة 3%.
ووفقًاً لتوقعات الطاقة على المدى القصير (STEO) الصادرة في أيلول 2023، من المتوقع أن ينخفض استهلاك الكهرباء في الولايات المتحدة بنسبة 1.26% في عام 2023، من 4048 تيراواط في الساعة في عام 2022 إلى 3997 تيراواط في الساعة في عام 2023.
وحسب القطاعات واستخدام الكهرباء السكني من المتوقع أن ينخفض الاستخدام التجاري بنسبة 1.8% والاستخدام الصناعي بنسبة 1.39%. ومن هذا المنظور، هل بدأت الصناعة التحويلية في الولايات المتحدة حقاً ما يسمى “الدورة الفائقة”؟ هذا أمر مشكوك فيه إلى حد ما.
وتتعارض البيانات اللوجستية في الولايات المتحدة أيضًاً مع فكرة الانتعاش الاقتصادي السريع. حيث سلطت كاثي وود، الرئيس التنفيذي لشركة ARK Invest، الضوء على المخاوف بعد تحليل إيرادات UPS، وكشفت عن انخفاض في أحجام التسليم اليومية على الرغم من استقرار حصص السوق بين شركات البريد السريع الكبرى. ويشير هذا إلى انكماش أوسع في قطاع البريد السريع. وتوقعت FedEx أيضاً انخفاضاً كبيراً بنسبة 25٪ على أساس سنوي في حجم التسليم الوطني لعام 2023.
وينبغي التشكيك في بيانات التوظيف أيضاً. وتشهد صناعة التكنولوجيا الأمريكية عمليات تسريح كبيرة للعمال منذ بداية عام 2023، حيث قامت شركات كبيرة مثل غوغل، وفيسبوك، وول مارت، وأمازون بتسريح الموظفين.
وعلى الرغم من ذلك، فإن بيانات تشغيل العمالة لاتزال تظهر اتجاهاً جيداً إلى حد مدهش، مع استمرار معدل البطالة في الانخفاض، بل وحتى تسجيله أدنى مستوى قياسي له منذ أكثر من 50 عاماً.
فقد أفاد مكتب إحصاءات العمل الأمريكي أن الوظائف غير الزراعية في أيلول 2023 ارتفعت بمقدار 336 ألف وظيفة، متجاوزة التوقعات البالغة 170 ألف وظيفة.
ومع ذلك، أشارت الأرقام الصادرة عن الشركة الخاصة لمعالجة البيانات الآلية (ADP) إلى زيادة متواضعة قدرها 89 ألف وظيفة في التوظيف غير الزراعي في نفس الشهر، وهو أقل بكثير من المتوقع وهو 153 ألف وظيفة.
ويعتقد مارك زاندي، كبير الاقتصاديين في شركة Moody’s Analytics، أن مكاسب الرواتب الفعلية تتراوح في المتوسط بين 150 ألف إلى 200 ألف شهرياً، بدلاً مما يقرب من 300 ألف وظيفة المعلن عنها في أرقام الوظائف الشهرية.
الحقيقة المخفية
في الإحصاء، الانحراف مسموح به ومراجعة البيانات أمر لابد منه. لا يمكننا أن ننكر أن بعض الانحراف أو حتى الأخطاء الحسابية قد تؤثر على النتيجة النهائية. ومع ذلك، إذا كان هناك الكثير من الانحراف دون تفسير منطقي، فهناك احتمالات بأن حكومة الولايات المتحدة ربما تتلاعب بالبيانات لتأمين مصالحها.
الاستعلام الأول يأتي من “التناقضات” في الأساليب الإحصائية. ومنذ العام الماضي، قامت حكومة الولايات المتحدة، مرات عديدة، بتخفيض بيانات التوظيف التي صدرت سابقاً بشكل كبير: فالبيانات الصادرة لأول مرة عادة ما تكون جيدة بشكل خاص.
بعد أن يرفع بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة، تقوم الحكومة بإجراء مراجعات “تنازلية” عدة مرات. هذه ليست حالة واحدة. لقد أصبحت ممارسة حدثت عدة مرات، مما يعني إما أن هناك مشاكل خطيرة في الطريقة الإحصائية، أو أنها “تلاعب” يهدف إلى توجيه السوق وإدارة التوقعات.
ويلمح البعض إلى “إستراتيجية كبرى مخفية”، تهدف إلى إخفاء المخاوف الاقتصادية الأعمق، وجذب المزيد من رأس المال إلى الولايات المتحدة، وتعويض العجز في الحساب الجاري بفائض رأس المال.
ومع استمرار بنك الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة، زاد الضغط على ديون الدول الأخرى بالدولار بشكل كبير. لقد استخدمت الولايات المتحدة هيمنتها المالية لتحويل الصراعات الداخلية ونهب ثروات البلدان الأخرى. وفي الوقت نفسه، وبمجرد بدء موسم الانتخابات، ينصب تركيز إدارة بايدن على البيانات السطحية والملفتة للنظر، والتي قد تساعد في الفوز بأغلبية الدعم في الانتخابات الرئاسية.
يبدو أن العالم لا يستطيع أن يعتمد على البيانات الرسمية التي تقدمها حكومة الولايات المتحدة للحكم على أساسياته الاقتصادية. وعلى المراقب الفطن أن يرى من خلال سراب الاقتصاد الأمريكي المبني على بيانات غير موثوقة أو إحصائيات مشكوك فيها. ويجب على المستثمرين أن يظلوا يقظين ليس فقط بشأن السوق الأمريكية الزائفة، بل أيضاً ضد اليد غير الجديرة بالثقة التي تقف وراء كل هذا.
المصدر- شينخوا