الثورة – أسماء الفريح:
في سياسة تصعيدية دأبت حكومة الاحتلال الإسرائيلي برئاسة بنيامين نتنياهو على انتهاجها، بهدف تأزيم الأمور، وقطع الطريق أمام أي محاولات إقليمية أو دولية للوصول إلى اتفاق أمني مع سوريا، أساسه العودة للعمل باتفاق فض الاشتباك لعام 1974 وانسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق التي احتلتها بعد كانون الأول/ديسمبر 2024، يواصل مسؤولو الكيان تعنتهم، في مسعى للوصول إلى أكبر مكاسب ممكنة أو على الأقل محاولة تحسين صورتهم المهزومة داخليًا والمشوهة خارجيًا.
وقد أثار دخول رئيس وزراء الاحتلال برفقة وزير حربه، يسرائيل كاتس، ووزير خارجيته، جدعون ساعر، ومسؤولين آخرين، إلى المنطقة العازلة في الجنوب السوري أمس الأربعاء، تفاعلاً إعلامياً وشعبياً كبيراً على مستوى المنصات السورية والعربية والدولية.
ولأن الزيارة جاءت في سياق تصعيد إسرائيلي واضح يهدف إلى فرض واقع جديد على الأرض في المناطق التي سيطرت عليها إسرائيل بعد سقوط النظام المخلوع، وإرسالها رسائل متعددة الأطراف إلى واشنطن واللاعبين الإقليميين والحكومة السورية، فقد أظهر الرصد الإعلامي والرقمي تغطية واسعة للحدث.
تقرير رصد إعلامي للزيارة
كشف الرصد الرقمي أن الزيارة حظيت بتغطية واسعة عبر 8 منصات رئيسية يتابعها نحو 44.2 مليون متابع، وأثارت موجة غضب شعبية كبيرة بلغت 66 بالمئة من إجمالي التفاعلات.
كما أظهر الرصد الرقمي للمنصات الدولية أن الحدث حقق وصولًا محتملًا لأكثر من 150.6 مليون مستخدم، بتفاعل بلغ 13,100 تفاعل مباشر و2,400 مادة إعلامية منشورة.
وبينت نتائج الرصد أيضاً أن هناك فجوة واضحة بين مستوى الغضب الشعبي المرتفع وضعف الردود الدولية الرسمية، فيما سُجلت موجة تضامن عربية ودولية لافتة، خاصة من المنصات الفلسطينية والعربية.
وكان الاحتلال الإسرائيلي قد عمد بعد إسقاط النظام المخلوع في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، إلى التمدد باتجاه “المنطقة العازلة” عقب إعلانه انهيار اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974، التي أُقيمت على أساسها هذه المنطقة، ودفع بقواته إلى هناك لمنع ما أسماها “القوات المعادية” من الوصول إلى حدوده.
وزعم نتنياهو آنذاك أن وجود قواته في تلك المنطقة مؤقت، وقال: “أصدرنا الأوامر للجيش بالاستيلاء على هذه المواقع، لضمان عدم تمركز أي قوة معادية بالقرب من حدود إسرائيل. وهذا موقف دفاعي مؤقت إلى أن يتم التوصل إلى ترتيب مناسب”. وأضاف نتنياهو: “نعمل بالدرجة الأولى على حماية حدودنا.. لقد انهارت اتفاقية فك الارتباط بترك الجنود السوريين لمواقعهم”.
لكن التحركات الإسرائيلية منذ ذلك الوقت تثبت بالدليل القاطع أن تصريحات نتنياهو غير صحيحة وأنها لذر الرماد في العيون فقط. حتى أن وزير حربه قال قبل أيام قليلة إن القوات الإسرائيلية ستحافظ على وجودها وسيطرتها في جبل الشيخ والمنطقة العازلة في سوريا. فيما ذكرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن إسرائيل تخشى ضغطًا محتملًا من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للانسحاب من منطقة جبل الشيخ، التي احتلتها بعد سقوط نظام بشار الأسد.
وبالإضافة إلى احتلال الجولان السوري، الذي يقول مسؤولون إسرائيليون إنهم لن يقبلوا التفاوض بشأنه في إطار أي اتفاق أمني مع سوريا، فإن القوات الإسرائيلية توغلت داخل الأراضي السورية في “المنطقة العازلة”، واحتلت جبل الشيخ، بالإضافة إلى دخولها شبه اليومي في ريفي القنيطرة ودرعا، وريف دمشق، إلى جانب تدميرها آليات ومعدات وذخائر للجيش السوري عبر مئات الغارات الجوية.
مغزى توقيت ودلالات الزيارة
قد تكون زيارة نتنياهو “المنطقة العازلة” بمثابة هروب من الأزمات الداخلية التي تلاحقه وتهدد ائتلافه، حيث ذكرت رئاسة الوزراء الإسرائيلية أن الزيارة جاءت بعد أن وافق القضاة على إلغاء شهادة نتنياهو في إطار محاكمة جنائية مستمرة تتعلق باتهامه بملفات فساد متعددة، هي الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، وهو المطلوب أيضًا للمحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة.
كما أن توقيت الزيارة قد يكون بمثابة رسالة إلى الأطراف الفاعلة في الملف السوري، مثل الولايات المتحدة التي تحاول التوصل إلى اتفاق بين سوريا وإسرائيل، مع إشارة “هيئة البث الإسرائيلية” إلى أن جولة نتنياهو وكاتس في “المنطقة العازلة” تأتي في سياق الجهود الأميركية لتوقيع اتفاقية أمنية بين إسرائيل وسوريا، ورسالة إلى روسيا أيضًا في أعقاب جولة وفدين من وزارتي الدفاع السورية والروسية في الجنوب قبل أيام، وإلى تركيا.
قال المحلل والباحث في الشؤون السياسية ومدير الرابطة السورية لحقوق اللاجئين، مضر حماد الأسعد، لصحيفة “الثورة”: “إن إسرائيل تلعب دائماً على وتر الفوضى في سوريا، وكلما اقتربت الحكومة السورية من الاتفاق مع أي طرف في الداخل السوري، تتدخل لإفشال الحلول بما يؤدي إلى إشاعة عدم الاستقرار”.
وأضاف: إن إسرائيل تعتبر قوات “قسد” أو الفصائل الخارجة عن القانون في السويداء وفلول النظام المخلوع بمثابة “الفزاعة” التي تستخدمها ضد الحكومة السورية من أجل الحصول على تنازلات منها، وهي تدعم تلك الميليشيات من أجل الحصول على مكاسب أمنية وعسكرية.
وتابع بأن زيارة كبار المسؤولين السوريين إلى الولايات المتحدة وروسيا والصين والمملكة المتحدة، إلى جانب الزيارات المتبادلة بين سوريا وتركيا على مختلف المستويات، وكذلك الدعم الخليجي وخاصة من المملكة العربية السعودية وقطر، وتصريحات الإدارة الأميركية الإيجابية تجاه سوريا ورفع العقوبات عنها، والإشارات التي ترسلها إلى قوات “قسد” بضرورة استكمال اندماجها في مؤسسات الدولة السورية بموجب اتفاق العاشر من آذار/مارس الماضي، والأخرى إلى الفصائل الخارجة عن القانون في السويداء، ورفع العقوبات الأممية عن الرئيس أحمد الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب… كل هذه الأمور الإيجابية أزعجت إسرائيل ونتنياهو الذي يعمل على التشويش على أي نجاح تحققه الحكومة السورية.
وقال المحلل الأسعد: “لا شك بأن زيارة نتنياهو إلى جنوب سوريا موجهة للدول التي تدعم القيادة السورية ووحدة سوريا أرضاً وشعباً. لذلك، ينبغي على المجتمع الدولي والأمم المتحدة التحرك بقوة من أجل وقف مخططات نتنياهو التوسعية في سوريا بشكل كامل”، مشيرًا إلى أن مسألة “المخاوف الأمنية” التي ترددها إسرائيل لا تعدو كونها دعاية إسرائيلية لمواصلة اعتداءاتها على الأراضي السورية ومن أجل الضغط على القيادة السورية.
وأشار إلى أن إسرائيل أقدمت بعد سقوط نظام الأسد بساعات قليلة على تدمير المواقع الأمنية والعسكرية في سوريا، بعد أن زود النظام المخلوع الاحتلال بإحداثيات المواقع بشكل كامل مقابل فراره، موضحاً أن سوريا حالياً ليست في وضع يسمح لها بالرد على الاعتداءات الإسرائيلية بعد تدمير قدراتها العسكرية بشكل كامل، رغم عمل الدولة السورية على إعادة تأهيل وتدريب الجيش السوري وتسليحه وإعادة تأهيل المطارات العسكرية المدمرة.
إدانات سورية وعربية ودولية
أدانت وزارة الخارجية والمغتربين في بيان صحفي الزيارة، مؤكدة أنها تمثل محاولة جديدة لفرض أمر واقع يتعارض مع قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وتندرج ضمن سياسات الاحتلال الرامية إلى تكريس عدوانه واستمراره في انتهاك الأراضي السورية.
وقالت الوزارة: “إن سوريا تجدد مطالبتها الحازمة بخروج الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي السورية، وتشدد على أن جميع الإجراءات التي يتخذها الاحتلال في الجنوب السوري باطلة ولاغية ولا تُرتب أي أثر قانوني وفقاً للقانون الدولي”.
ودعت الوزارة المجتمع الدولي إلى الاضطلاع بمسؤولياته وردع ممارسات الاحتلال وإلزامه بالانسحاب الكامل من الجنوب السوري والعودة لاتفاقية فض الاشتباك لعام 1974، مؤكدة أن سوريا ستواصل الدفاع عن سيادتها وحقوقها غير القابلة للتصرف حتى استعادة كامل أرضها.
وفي عمّان، أكدت وزارة الخارجية وشؤون المغتربين الأردنية أن دخول نتنياهو ومسؤولي حكومته المتطرفة إلى الأراضي السورية يشكل انتهاكاً صارخاً لسيادة سوريا ووحدة أراضيها، وخرقاً فاضحاً للقانون الدولي، وتصعيدًا خطيرًا لن يسهم إلا بمزيد من الصراع والتوتر في المنطقة.
وأكد الناطق الرسمي باسم الوزارة، فؤاد المجالي، رفض المملكة المطلق وإدانتها الشديدة لهذا الانتهاك الخطير الذي يمثل مساسًا بسيادة دولة عربية، وتصعيداً استفزازياً خطيراً غير مقبول، مشدداً على ضرورة وقف جميع الإجراءات الإسرائيلية التي تستهدف أمن سوريا واستقرارها، والتي تُعد انتهاكاً لميثاق الأمم المتحدة والتزامات إسرائيل بموجب اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974.
وفي نيويورك، دعا الناطق الرسمي باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، “إسرائيل إلى احترام اتفاق فض الاشتباك لعام 1974″، وقال إن “هذه الزيارة التي جرت علنًا وبصورة صريحة تُعد مقلقة على أقل تقدير”.
هل ما زال الاتفاق الأمني ممكناً؟
بعد أن تحدثت تقارير إعلامية إسرائيلية أمس عن تراجع احتمالات التوصل إلى اتفاق أمني مع سوريا بشكل كبير، تحدثت “هيئة البث الإسرائيلية” عن أن زيارة نتنياهو إلى الجنوب السوري تأتي في ظل الجهود الأميركية الرامية إلى توقيع اتفاقية أمنية بين إسرائيل وسوريا.
كانت الولايات المتحدة قد أعلنت في آب/أغسطس الماضي عن سعيها للتوصل إلى اتفاق بين سوريا وإسرائيل، فيما أشارت تقارير إعلامية إلى احتمالية حدوث ذلك خلال مشاركة الرئيس الشرع في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في أيلول/سبتمبر الماضي، غير أن الزيارة انتهت دون الإعلان عنه.
فيما أشار تقرير لوكالة “رويترز” إلى أن سبب تعثر التوصل إلى اتفاق في اللحظات الأخيرة هو تمسك إسرائيل بإنشاء ممر يصل بينها ومحافظة السويداء.
كما سربت مصادر أمنية إسرائيلية منتصف أيلول/سبتمبر الماضي معلومات عن وجود خلافات، خلال اللقاءات التي عقدها وزير الخارجية والمغتربين، أسعد الشيباني، مع وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر.
وبينت أن هذه الخلافات تتعلق بشكل رئيسي بمطالب سوريا بانسحاب إسرائيل من المواقع التي احتلتها منذ أواخر عام 2024، والعودة إلى حدود اتفاقية فض الاشتباك الموقعة عام 1974 تحت إشراف الأمم المتحدة، مع وقف انتهاك إسرائيل للأجواء السورية.
نتنياهو ومزاعم حماية الأقليات
قال نتنياهو خلال زيارته للمنطقة العازلة أمس: إن إسرائيل “تولي أهمية بالغة لقدراتها الدفاعية والهجومية في المنطقة، وهذه المهمة قد تتطور في أي لحظة”. وأضاف: “نولي أهمية بالغة لقدراتنا لحماية حلفائنا الدروز وخاصة حماية إسرائيل وحدودها الشمالية المقابلة للجولان”.
هذه التصريحات تبين عودة نتنياهو للعزف مجدداً على وتر حماية الأقليات، وإيجاد موطئ قدم لكيانه في الجنوب عبر إثارة التفرقة والانقسام بين مكونات الشعب السوري.
وحول ذلك، يقول المحلل الأسعد: إن إسرائيل تحاول ضرب وحدة سوريا وخلق الشرخ بين مكونات المجتمع السوري من خلال ما يسمى “ممر داوود” الذي يوصل الجولان مع السويداء ومع منطقة الجزيرة والفرات، أي مع قوات “قسد” أو حزب “بي كي كي”، وأن يكون هذا الممر محاذيًا للحدود الأردنية ومن ثم محاذيًا للحدود العراقية وصولًا إلى نهر الفرات.
يُشار إلى أنه على خلفية الأحداث المؤلمة التي شهدتها محافظة السويداء في تموز/يوليو الماضي، كشفت خرائط مسربة من دوائر صنع القرار في إسرائيل ونُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي في آب/أغسطس الماضي، عن الممر المذكور الذي يمثل حلقة من حلقات المشروع الصهيوني في المنطقة.
وتحت ذريعة حماية “الدروز” في السويداء وفي ريف دمشق، ولدعم الفصائل الخارجة عن القانون الموجودة في المحافظة لاستمرار الفوضى وبث التفرقة والتفكك والانقسام، شنت قوات الاحتلال اعتداءات على مواقع للجيش السوري مراراً خلال الأشهر الماضية.