الثورة – فؤاد الوادي:
استقبل الرئيس أحمد الشرع في قصر الشعب الأربعاء، الشيخ مانع حميدي الجربا، شيخ قبيلة شمر، حيث جرى خلال اللقاء الحديث عن مستجدات الأوضاع في المنطقة الشرقية، والمساعي الرامية إلى إدماج المنطقة بشكل كامل ضمن مؤسسات الدولة السورية والبنية الوطنية.
إن استقبال الرئيس الشرع لشيخ قبيلة شمر يفتح الباب على دور القبائل العربية في حماية الوحدة الوطنية وتثبيت دعائم الأمن والاستقرار، في ضوء المخططات والاستهدافات المتواصلة من قبل فلول النظام المخلوع، وأعداء الوطن في الداخل والخارج لضرب الوحدة الوطنية وإبقاء المشهد قيد التوتر والفوضى.
تاريخ مشرف من الانتماء
في الحديث عن مبدأ سيادة الدولة ومؤسساتها، يبرز على الفور عدة نماذج لكيانات أو تجمعات بشرية، حاولت في ظرف من الظروف اختراق وتجاوز هذا المبدأ، الذي يعكس في رمزيته وأبعاده هيبة الدولة وقدرتها على الضبط والتحكم وإدارة كل الأمور وصيرورة الأحداث.
تملك القبائل العربية في سوريا تاريخا مشرفا من الانتماء العربي والوطني، والدفاع عن وحدة الوطن، وهذا ما يدعونا إلى الحديث عن دورها الحالي والمستقبلي في الحفاظ على السلم والاستقرار الأهلي والسياسي، انطلاقا من قوتها وتأثيرها الديمغرافي العشائري الفاعل بين أبنائها، لا سيما في ضوء المتغيرات والتحولات التي لا تزال تعصف بالمشهد العام “العربي والإقليمي والدولي”، والذي يصيب بارتداداته العمق السوري شئنا أم أبينا، سواء أكانت هذه الارتدادات إيجابية أم سلبية في آثارها ونتائجها.
ضمن هذا السياق، تُطرح مسألة الاستثمار في قوة القبائل العربية وكيفية توجيهها ووضعها على مسارها الصحيح، وجعلها ضمانة حقيقية لدعم جهود الدولة في حفظ الاستقرار والأمن، وصولا إلى الانتقال بها من فكرة “الفزعة” إلى منطق “الدولة” المنظم والمضبوط، ومن مفهوم “النداءات” القبلية والعشائرية، إلى حقيقة “النداءات” المؤسساتية والحكومية.
ولعل هذا الأمر يبدأ من مقاربة مختلفة للدولة الجديدة حيال هذا الأمر، مقاربة تأخذ بعين الاعتبار من جهة التحديات المتشظية والمتلطية هنا وهناك، والتي تستهدف العبث بالاستقرار والأمن، وتأخذ من جهة أخرى، المتغيرات التي تطرأ تباعا على المشهد السوري، في ظل حالة الانفتاح الدولي على دمشق، والذي يفرض عليها إنتاج حلول سريعة لمعظم الملفات الإشكالية، فيما يشكل مدخلا للاندماج مع التطورات الجديدة بما يعكس وجه دمشق الجديد.
صمام أمان لوحدة الوطن
أكد الباحث السياسي، الدكتور خالد المصطفى، أن القبائل العربية لطالما شكلت صمام الأمان، ليس في سوريا وحدها، بل في معظم الدول العربية المجاورة.
مضيفا أن أبناء العشائر والقبائل العربية كانوا وقود الثورة السورية منذ بدايتها حتى انتصارها، وهو ما يتطلب من الدولة تفعيل دور القبائل العربية بالشكل المناسب بما يليق بمكانتها ودورها، وذلك من خلال وضع خطط استراتيجية تُشرك أبناءهم في إدارات ومؤسسات الدولة الجديدة بعيدا عن التهميش والإقصاء.
لقد أثبتت الأحداث التي جرت خلال الأشهر القليلة الماضية أن العشائر العربية لها تأثير وحضور قوي على الساحة، وأن لها دورا كبيرا في حماية الوحدة الوطنية، لكن تلك القوة، بحسب باحثين ومحللين سياسيين، يجب أن تُؤطر وتُنظم من قبل الحكومة.
وفي هذا السياق يرى الدكتور المصطفى أن انضمام أبناء العشائر إلى الجيش العربي السوري يُعد خطوة على طريق تنظيم واحتواء هذه القوة البشرية ضمن وزارات ومؤسسات الدولة المعنية بهذا الأمر، سواء أكانت وزارة الدفاع أم وزارة الداخلية وأجهزة الأمن الأخرى.
كما أن سحب السلاح وتنظيم آليته، من كل الأطراف والكيانات والأشخاص، يُعد من الأولويات والأمور الضرورية التي تنقل هذا الملف إلى أحضان الدولة والقانون بشكل انسيابي ومرن.
مبينا أن القبائل العربية لن تمانع في تسليم أسلحتها للدولة، بل ستكون هي المبادرة في تسليم سلاحها في حال انتهت التهديدات التي تشكلها الكيانات المحيطة بها، ونقصد هنا ما يسمى بـ”قوات سوريا الديمقراطية”.
والعكس صحيح، فلا يمكن لأبناء القبائل العربية أن يسلموا أسلحتهم، بالرغم من كونها فردية وخفيفة ولا تشكل تهديدا لأحد، طالما بقيت بعض الكيانات تمتلك أسلحة خفيفة وثقيلة وتطالب بالانفصال والاستقلال وتقطيع أوصال الوطن.
وختم الباحث السياسي حديثه بالقول: “إن الدولة السورية الجديدة في أمس الحاجة اليوم إلى كافة أبنائها بمختلف أطيافهم وألوانهم، في ظل حجم التحديات الكبيرة التي تواجهها، والإرث الثقيل الذي خلفه النظام البائد على كل تفاصيل وعناوين البلد”.
خارطة توزعها وامتدادها
يمكن توزيع القبائل العربية في سوريا على ثلاث فئات: الأولى البدوية، والثانية الريفية والزراعية، وأما الثالثة فهي المرتبطة بالمناطقية كالعشائر الكردية والتركمانية والديرية، في الشرق والشمال.
ويُعد ريف الحسكة موطنًا لأكبر التجمعات العشائرية في سوريا، وتتصدرها قبيلة شمر بفروعها (عبدة، والأسلم، وزوبع)، المرتبطة بعشائر العراق.
كما تقطن في القامشلي عشائر العساف، والحريث، والجوالة، وبني سبعة، والحرب، والبوعاصي، بالإضافة إلى الجبور الزبيدية التي تمتد زراعيا ورعويا حتى شمال العراق وغربه.
وتُعد عشيرة العكيدات (العقيدات) أكبر تجمع عشائري في دير الزور بفروعها: البوسرايا، والبوحسن، والبورحمة، والقرعان وغيرها، وهي من العشائر التي حافظت على طابعها البدوي، كما تنتشر قبيلة البقارة وعشيرة البوصليبي، ويعتمدون في معيشتهم على الزراعة وتربية المواشي.
لا يمكن الحديث عن العشائر السورية بمعزل عن دورها السياسي المتزايد بعد سقوط النظام، فالبداوة في سوريا لم تعد مجرد أسلوب حياة، بل تحولت إلى هوية سياسية تسعى للنجاة وسط رمال متحركة، في وقت حاول البعض جعلها بديلا عن الدولة.
وأما في محافظة الرقة، فهناك أيضا عشائر بارزة عدة، أهمها شمر، والبقارة (بفروع مثل البوحسن والبومعيش)، وبنو خالد ذات الجذور القحطانية، التي لها تاريخ في تأمين طرق القوافل الصحراوية.
أما البادية الممتدة من حمص إلى دير الزور، فتضم عشائر عنزة وفرع “السبعة” الرحل، بالإضافة إلى عشيرة الفواعرة في البادية الشرقية وفروع بني خالد على أطراف المحافظة.
وتتمركز قبيلة الحديديين (عدنانية الأصل) في بادية حماة وريف حلب الشرقي، وأبناؤها مشهورون بتربية الخيول والفروسية.
أما محافظة السويداء جنوبا، فتضم عشائر عربية بدوية من قبيلة عنزة مثل السرحان، والسلوط، والزويد، والحرافشة، ومعظمهم استقروا في القرى الشرقية كملح وخربة عواد، كما يتواجدون في حي المقوس داخل المدينة.
وكما في عموم المنطقة العربية، لا تُفهم السلطة في سوريا بالنسبة للقبائل العربية عبر مؤسسات الدولة فقط، بل عبر تلك البنى الاجتماعية الممتدة في التاريخ، حيث تأخذ “الأنساب” أهمية كبرى في تحريك المجتمعات وتثبيت عاداتها.
وتعود البنية القبلية في سوريا إلى قرون طويلة، حين هاجرت قبائل عربية من الجزيرة العربية واليمن إلى بادية الشام بحثا عن الماء والكلأ، واستقر بعضها في القرى، بينما حافظ آخرون على حياة الترحال.
مقاومة الاستعمار الفرنسي
وقد لعبت القبائل العربية أدوارا بارزة في التاريخ الحديث، إذ شاركوا في مقاومة الاستعمار الفرنسي، بل كان لبعض شيوخهم نفوذ مؤثر في صياغة التحالفات الاقتصادية والسياسية المحلية.
بعد سقوط النظام المخلوع، تحول “مجلس القبائل والعشائر السورية” إلى كيان سياسي وعسكري موحد وفرض نفسه كطرف قادر على استدعاء مقاتليه من كل سوريا، ويحتاج تدخلات دولية لردعه، فهم دولة داخل الدولة لحماية الدولة.
بيد أن هذا التعدد في مستويات العيش والاندماج لم يمنع من تمسك العشائر -بفئاتها كلها- بمرجعياتها التقليدية، إذ ظلت كلمة الشيخ نافذة، وظل الانتماء إلى العشيرة متقدما على الانتماء إلى الدولة، خصوصا في مناطق التهميش التنموي والأطراف.
فإذا عدنا إلى العلاقة بين العشائر والدولة في سوريا، نجد مسارا متقلبا بدأ مع الدولة العثمانية التي وظفت العشائر لحماية الطرق الصحراوية مقابل امتيازات مادية ومعنوية.
ومع دخول الفرنسيين، حاولت سلطة الانتداب تأمين ولاء شيوخ العشائر بمنحهم الأراضي والامتيازات، في خطوة أدت إلى تصنيفات داخلية بين عشائر “مسلحة”، وأخرى خُصصت لتكون بلا سلاح.
بعد استقلال سوريا عام 1946، ألغى البرلمان “قانون العشائر” الفرنسي، وأصدر “مرسوما لعشائر البدو” بهدف دمجهم في المجتمع المستقر.
وفي أثناء الوحدة مع مصر عام 1958، أصدر جمال عبد الناصر قانون الإصلاح الزراعي، ما أدى إلى تراجع نفوذ شيوخ العشائر اقتصاديا واجتماعيا.ويبلغ عدد القبائل في سوريا نحو 25 قبيلة، تتفاوت في حجمها وولاءاتها، لكنها تتشابه في بنيتها الداخلية وعاداتها وتقاليدها.
وبعض هذه القبائل يمتد على رقعة عربية إقليمية، فيما يبقى بعضها الآخر محدود الانتشار ومحلي الطابع، وتتفرع عنها مئات العشائر المتفرقة.
من أبرز القبائل العربية العابرة للحدود مع الدول المجاورة، والتي تمتد بين سوريا والعراق، قبيلة العقيدات (أو العكيدات)، وهي من أكبر قبائل الفرات الأوسط والشرقي، تنتشر في دير الزور والبوكمال، ولها امتداد واسع في العراق، ولا سيما في محافظتي الأنبار ونينوى. وقبيلة شمر التي تنتشر في الجزيرة السورية، ولها وجود في العراق (الموصل وصلاح الدين) وكذلك في منطقة نجد بالسعودية. وقبيلة الجبور التي تتوزع بين الحسكة ودير الزور، وتشكل كتلة بشرية كبيرة في الموصل العراقية. وقبيلة العبيد التي تنتشر في ريف الحسكة، ولهم حضور في ريف الموصل. وقبيلة البقارة التي تمتد من سوريا إلى العراق والأردن ولبنان.
وينطبق الوضع ذاته على العشائر المشتركة بين سوريا والأردن، ومنها: بنو خالد التي تنتشر في جنوب سوريا (حوران) وشمال الأردن (إربد والمفرق)، والنعيمات (أو النعيم) ولهم وجود في ريف دمشق والجولان، وفي شمال ووسط الأردن، والسرحان التي تنتشر في البادية السورية (السويداء والبادية الشرقية)، ويقيمون أيضا في المفرق والبادية الأردنية.
التأثير القوي على مر التاريخ
أما العشائر الممتدة بين سوريا والسعودية، فأبرزها قبيلة عنزة، وهي من كبريات القبائل البدوية، وتنتشر في بادية الشام (الرقة، الحسكة، دير الزور)، وتمتد إلى نجد والحجاز في السعودية، وشمر، والنعيم التي توجد في دمشق وريفها، ولهم حضور في لبنان والأردن أيضا.
ويُضاف إلى هؤلاء البدو الرحل من العشائر العربية، مثل الموالي والحديديين والفواعرة. هؤلاء ينتشرون بين سوريا والأردن وشمال السعودية.
والحويطات الذين يقطنون جنوب سوريا (درعا والسويداء)، ولهم امتداد واسع في جنوب الأردن وشمال الحجاز.على امتداد التاريخ الطويل للقبائل العربية، من نشأة العرب وحتى اللحظة، سعت قوى عظمى إلى ضبط هذه البنية الاجتماعية أو التخلص من تأثيرها، لما تمثله من عنصر تفتيت أو توحيد قد يهدد استقرار المناطق التي تسكنها.
وعلى الرغم من بدائية وسائل عيشها من الرعي والزراعة المحدودة، إلى حماية طرق التجارة والتهريب، فإن تأثيرها ظل حاضرا ومربكا للسلطات المركزية.
وتشير دراسة “القبيلة والسلطة في سوريا.. التاريخ والثورة”، الصادرة عن مركز عمران للدراسات (2021)، إلى أن الإمبراطوريات المتلاحقة – الآشورية، والبابلية، واليونانية، والمصرية، والفارسية، والرومانية – حاولت قهر القبائل العربية دون جدوى.
هذا الإدراك دفع الحكام والقادة، على مر العصور، إلى كسب ود القبائل بدلا من مواجهتها، والاعتماد على سلاحها بدلا من استنزافها.
فعلى سبيل المثال، لم يتمكن الإمبراطور الروماني أوريليان من إخماد تمرد الملكة زنوبيا في تدمر عام 273 قبل الميلاد، إلا بمساعدة قبائل التنوخيين، حيث هزمها في معارك عدة بين أنطاكيا وحلب وحمص وتدمر.
ومن هنا تبين للرومان أهمية التحالف مع القبائل، لا قتالها، لضمان السيطرة على المنطقة.
الجدير ذكره، أنه منذ عام 2019 عمل الرئيس أحمد الشرع منذ أن كان في إدلب على تأسيس مجلس القبائل والعشائر السورية، بهدف توحيد العشائر العربية، وله هيكلية داخلية تشمل المؤتمر التأسيسي والهيئات الرئاسية والتنفيذية والاستشارية.
وحاليا يشغل جهاد عيسى الشيخ منصب مستشار الرئيس لشؤون العشائر في الحكومة الجديدة، حيث حضر افتتاح مكتب المجلس في حلب عام 2025.
ضمن هذا السياق، يمكن القول إن العشائر أصبحت محور ارتكاز مزدوج، تُسهم، وإن مؤقتًا، في حفظ الأمن والاستقرار.